13-يوليو-2020

(منصة الأخبار)

منذ القدم، لطالما اقترن التعليم الجيد بالدخل الجيد، مراكمًا بذلك تفوق الطبقات ذات الدخل الأعلى بالوصول لأفضل أنواع التعليم، لكن شيئًا فشيئًا بدأت المجتمعات الإنسانية في خلخلة هذه الامتيازات التي رزحت فيها طبقات بعينها، لصالح لاعبين جدد. منذ أن نَبِه ماركس في القرن التاسع عشر بأن المجتمعات الرأسمالية تحمل بذرة فنائها داخلها، متوقعًا أن نتاج ذلك الفناء الحتمي للمجتمعات الرأسمالية؛ حتى تاريخه، نجت الرأسمالية من خطر انهيارها كنظام اجتماعي واقتصادي جرّاء التناقضات الداخلية التي تحملها، عبر تقديم تنازلات من بنية جسدها الأصيلة، فقدمت نظم الرعاية الاجتماعية والضمان الصحي، وعلى مستوى قطاع العمل، استخدمت الشركات أنظمة أفضل في التعامل مع موظفيها، فضمنت حقوقًا أفضل نوعًا ما للعمال عبر النص وضمان الاجازات أو التعويض في حالات الفصل التعسفي في بعض أنظمة العمل العالمية. كل ذلك تمّ كتنازلات تقدمها الأنظمة الرأسمالية نظير النجاة من انهيارها الكامل.

تقدم مطرد

أقّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا ينص أن التوظيف في الوظائف الفيدرالية الأمريكية، لن يكون على أساس المفاضلة بأفضلية الشهادة الجامعية

وبالرغم من أن الحقوق المكتسبة كحقوق العمال غير مرضية تمامًا للناشطين في هذا المجال، لكن هي أيضًا منجزات لا يمكن إغفال النظر عنها جملة.

اقرأ/ي أيضًا: عالم ما بعد جورج فلويد

وفي أحد أشرس الأنظمة الرأسمالية، نظام الولايات المتحدة الأمريكية، أُقر خواتيم تموز/يونيو المنصرم، قرارًا يعتبر بشكل كبير ضربة للأنظمة الرأسمالية في جانبها الاجتماعي، فقد أقّر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارًا ينص أن التوظيف في الوظائف الفيدرالية الأمريكية، لن يكون على أساس المفاضلة بأفضلية الشهادة الجامعية، ليحل معيار المهارة بديلًا للممايزة على أساس المؤهل الأكاديمي.

ويعتبر القرار، بشكلٍ كبير، اعترافًا بالمحمول المعرفي المكتسب بشكل فردي لدى الأفراد، وأيضًا سيزيد القرار من رغبة الأفراد في امتلاك معرفة متخصصة، بما يترتب عنه منافسة أفضل وذات صبغة ندية وعادلة أكثر مما كانت عليه. 

الحق في المعرفة

الاعتراف بحق مشروعية الوصول على المعرفة والاستفادة منها، هي السمة التي أشعلت هذه المعركة هي شرارة انفكاك احتكار المعرفة لأول مرة في التاريخ البشري، فالمعرفة طوال تاريخها ظلت متاحة ومحتكرة ومتوارثة من قبل ولـ"أفراد طبقات" بعينها، عبر المؤسسات الرسمية، كالمكتبة بوصفها "مكان" المعرفة، الجامعة بوصفها مؤسسة للمعرفة، الكتب نفسها ظلّت الشكل الأمثل والأكثر اعتبارًا للمحتوى المعرفي.

وكعادة تجلي السياسات الرأسمالية بداية بشركاتها غير الحكومية، تبنت منذ زمن طويل شركات رأسمالية ضخمة كشركة "قوقل" وIBM"" نظام توظيف لا يعتمد على المعيار الأكاديمي بقدر الامتيازات والمهارات المكتسبة بشكل شخصي، فشغّلت هذه الشركات موظفين مهرة في وظائف دون نيلهم للمؤهل الأكاديمي الجامعي.

جدير بالذكر، أن واحدًا من أهم المناطق الصنعية التقنية في العالم، وادي السليكون، حملت بين طياتها قصصًا عن نجاح وصعود بعض الرموز الرأسمالية الكبرى، الذين لم يكملوا تعليمهم الجامعي، كبيل غيتس المؤسس وصاحب أكبر الأسهم في الشركة بالغة الشهرة مايكروسوفت، ورفيقه المنافس ستيفن جوبز، مؤسس وواضع سياسة شركة أبل.

قصص محفزة

قصص بيل غيتس وجوبز أضحت عبارة عن ميم ثقافي في تلك المجتمعات، صبغة أساسية تعبّر عن إمكانية التغلب على النظام الاجتماعي الطبقي الذي يصبغ تلك المجتمعات، بوصفه منح للأمل لاستمرار تلك المجتمعات المغلقة، لأن القضاء التام على الأمل في مجتمعات جشعة ومتوحشة يعلن أيضًا معركة نهائية وقاضية ضد تلك المجتمعات القابضة.

اقرأ/ي أيضًا: لطلاب العلوم الاجتماعية والإنسانية.. كيف تختار موضوعًا لبحث تخرجك؟

وبشكل جليٍّ تمامًا، يعتبر القرار جرة قلم لاغية لتراكم طويل للأنظمة الرأسمالية الاجتماعية، التي ورثت هذه الامتيازات الأكاديمية الرسمية منذ بزوغ فجر التعليم الرسمي.

طوال تاريخه ظل التعليم الرسمي يعبر عن التمايز الاجتماعي، حتى في المجتمعات الحديثة مثّلت المؤسسات التعليمية أحد وسائل الحفاظ على التناقضات والتفاوتات الطبقية، كما ظلت العملية التعليمية محكومة بمركزية مفاضلة، تزيح قطاعات كبيرة من المجتمعات من القدرة على الوصول للتعليم الجيد وبالتالي المنافسة العادلة على الوظائف المطروحة، لينعم بها مستحقون مستفيدين من تراكم "رأس المال الحقيقي" و"الرمزي" بتعبير المفكر السوداني أبكر آدم إسماعيل.

 

"ميشيل فوكو عن الجامعات"

نهاية احتكار التعليم؟

نشأت الجامعة بوصفها اتحادًا للطلاب الإيطاليين أبناء الذوات الذين كانوا يدفعون للأساتذة في الجامعة نظير تلقينهم بعض الدروس المتخصصة

وبحسب المؤرخ العربي الراحل سعيد عبد الفتاح عاشور، فإن أقدم الجامعات بشكلها الحالي الأوربي، جامعة بولونا بايطاليا والتي تطورت على مراحل في الفترة ما بين القرن الحادي عشر وحتى الثالث عشر، كانت الجامعة قد نشأت بوصفها اتحادًا للطلاب الإيطاليين أبناء الذوات الذين كانوا يدفعون للأساتذة في الجامعة نظير تلقينهم بعض الدروس المتخصصة، كما ذكر في كتاب الجامعات الأوربية في القرون الوسطى.

منذ انسيال المعرفة بشكلها الكريم عبر انتشار الكتب المقرصنة بصيغة PDF، وحتى عصر المحتوى المعرفي المتاح في صيغ الفيديو وصناع المحتوى الحرين، منذ بدايات الألفية الأولى من القرن العشرين، ثم المحمول الأخلاقي والمعرفي للمسلسلات التلفزيونية والأفلام الغربية، كان من الواضح أن ثمّة تغيير كبير سيحدث في مسألة امتلاك المعرفة والاستفادة منها وتوظيفها، فبدأت الشركات الرأسمالية الاستفادة وتوظيف هؤلاء المهرة الذين يقدمون سلعة استهلاكية في الأساس لصالح سوقها الاستهلاكية.

منصات جديدة

كورسيرا، ليندا، منصات كثر تتيح حق الوصول للمعرفة بعيدًا عن المؤسسات الرسمية للدول والأنظمة، مدفوع لقاء ذلك أو مجانيًا، لكن تظل سمتها الأبرز هي اتاحة المعرفة لكل من أراد واجتهد، وبالرغم من أن هذه الخدمات التي تقدمها مؤسسات وجهات لطالبي التعليم الحر بمقابلٍ ماديٍّ في بعض الأحيان مما يدعم فرص أصحاب ذوات الدخل الأعلى، إلا أن ضريبة أخرى اقتطعت من الجسد الرأسمالي، وهي السلطة المؤسسية التراتبية المتعددة، كشكل المرور بالهيئات الأدنى للمعرفة، كالشهادات الثانوية أو الفنية المؤهلة بدورها للالتحاق بالأنظمة الأكاديمية الأرفع.

اقرأ/ي أيضًا: كوفيد-19 والنار وخيالات أخرى

من ناحية أخرى، يبدو أن هذه التكيفات التي تبديها النظم الرأسمالية، في ظل واقع اليوم المعولم ذو المركزية الواحدة، ليس إلا نظيرًا لتناقضاتها مع الأفراد، مكونون المجتمع، بعدما خلصت رأسمالية العالم من تناقضاتها مع الأنظمة السياسية العالمية، ذوات القطب الآخر أثناء القرن العشرين "السوفييت"، فبدأت تعالج الرأسمالية تناقضاتها مع الأفراد مباشرة، لتطور من نفسها وتكيفها حسبما يود المجتمع ويمكن له أن يستمر.

أساليب مبتكرة لمقاومة الرأسمالية

يقترح أليك رايت، المفكر الأمريكي ذو الميول الماركسية، في محاضرة قدمها قبل أعوام، أن ثمة طرق لمقاومة الرأسمالية في القرن الواحد والعشرون، طرقٌ تقوم في الأساس من الانطلاق الذاتي ودعم المشاريع ذات التوجه الجماعي في الإسهام فيها عبر الأفراد في المجتمعات المعاصرة، متحدثًا قبل ذلك عن أن الرأسمالية أتاحت بلا أدنى ريبة فرصًا أفضل الإنسانية، عبر الاختراعات والتقدم التقني والعلاجات الحديثة، كما أشار لانهيار قطبية العالم، موضحًا أن التنازع مع الرأسمالية بشكلٍ جذريٍ غير مجدٍ، مناديًا بدعم المشاريع ذات صبغ الاسهام الجماعي، كالمؤسسة المعرفية ويكيبيديا بوصفها مشروعًا حرًا، يعيد التشكيك في مسلمات العالم، عبر إمكانية إسهام الأفراد الفاعلين والراغبين في إعادة تعريف أي مفهومٍ اتفق العالم عليه عبر احتكاره للبت بالتعريف في مفهومٍ بحده أو آخر، عبر المؤسسات الرسمية للمعرفة.

تظهر إشاعة المعرفة كشكل من أشكال المقاومة في إعادة ضبط القيم لصالح المقاومين المتضررين من الأنظمة الاجتماعية

ويكيبيديا، في مجاهدتها لإرساء حق البشر في تخليق الحقيقة، رغم النقد المقدم لها في بعض أوجه قصورها، مشاريع كالعملة الإلكترونية الحرة بتكوين، اعتراف العالم بالعمالة المهرة، جلها تجليات لشكل من أشكال المقاومة، بالرغبة في إعادة ضبط القيم لصالح المقاومين المتضررين من الأنظمة الاجتماعية التي تراكم وتورث السلطة لفئات بعينها، حيث حينها تتآكل الرأسمالية للنجاة بجنينها، المجتمع المفتوح، بتعبير الفيلسوف الإنجليزي كارل بوبر.

اقرأ/ي أيضًا

سكاكر البنات السرية.. دواء غانيات بنغلاديش الذي قد يعالج كورونا

غير دوانج.. طفل الحرب الذي حمل أحلامه إلى هوليوود