21-أكتوبر-2022
فان كوخ

فنسنت فان كوغ

"من الأفضل أن نكون مُقرَّبين، لبعض الوقت، على أن نكون عديمي الحياة تجاه بعضنا البعض.. على الأقل، أثبتت هذه السُويعات التي قضيناها معًا أننا ما زلنا ننتمي إلى أرض الأحياء".

العزلة هي ما تفرضه إرادتنا على العالم، في حين تنتهي إرادة العالم المفروضة علينا إلى رهننا إلى الوحدة

في الرسالة التي يرسلها "فنسنت" إلى "ثيو" يُعبّر فيها عن امتنانه بلقائهما الأخير وسروره بأنه ما زال حيًّا. يبدو ربط الوحدة بالمَوات من حيث هو التعريف الأصيل لحالة الفنّان الشعورية -وقتها- جائزًا باعتبار أن التفاعل/نقصان التفاعل معيارًا يصلح لمقايسة الوحدة.

وبسبب ما نسلكُه في نهجِنا المؤخر لانتزاع الصفة من المؤثِّر، ينتحي مفهوم الوحدة اليوم إلى اتخاذه وجهًا أُحاديًا هو نقيض الانعزال، أي بالتالي تكون "الوحدة" بقابلية أن تكون مقاسة بالنسبة إلى مقدرة/عدم مقدرة ذواتنا على "الانبساط"، وأن ما يمكن أن ترتبط به الوحدة من تحديدات قد اتسع ليشمل حتى عند الإشارة إلى الأكثر من "الواحد المفرد"، فالغزارة التي تتميّز بصلاحية وصفها لتفاعلاتنا في هذا العصر - التي تدّعي نَسَبَها إلى الانبساط تبدو في الحقيقة أقرب إلى دلالة نعمل على تغييبها بسبب تدليلها على جَدبْ التفاعلات الحقيقية.

هذا الارتباط هو ترجمة حرفية لما يحدث عند غياب الأصالة التي تنتسب بواسطتها تفاعلاتنا إلى ذواتنا مباشرة دون وقوعها في فِخاخ التقليد، التماثُّل، الإيحاء، أو حتى الرغبة عبر الآخر، كتنويعات تتيح للذّات تحسّس نفسها.

https://t.me/ultrasudan

من ثم ليبدو الأمر غير مخصوص بالوحدة نفسها من حيث موقعها من الآخر، بالتحديد عندما يُعرِّفها فنان آخر هو "دافنشي" وأنها -أي الوحدة- هي ما سيلزمنا لتحقيق انتمائنا الكُلِّي إلى الذّات.

وللفنان الذي يمكنه أن يكون أي شيء، لا يمكنه أن يكون مطلقًا "السمكة التي لا تدرك الماء الذي توجد فيه" بوعيه الخاص الذي تنتجه ذاتُه عن العالم، ومن ثم ليجد نفسه مبكرًا في قطيعة مع الواقع، لا من باب الرفض المطلق لما يكونه العالم، ولكن الرفض المطلق لهذا الاستسلام لما قد يكونه.

ورغم أن قولًا كهذا بالنسبة إلى "تعريف" للوحدة، يبدو أقرب منه وصفًا لما تلبيه هذه الوحدة من حاجة إلى الذات كي تتفرَّد وتحفظ حدودها من التماهي مع الجموع، ومن ثم الحيلولة دون الوصول إلى حالة التطابق مع المحيط، إلا أنه على وجه التأكيد يبقى ترشيح الفنان لارتداء الوحدة دونًا عن الجميع عنوانًا بارزًا لحالة اغتراب عن المحيط. وذلك بسبب وقوع "الوحدة" داخل حدود "العزلة" وكونها مرشحة بالتالي للانفراد بعماء الذات المنعزلة - تلك التي كفّت عن تحسّس نفسها، لتقودها مباشرة باتجاه الوحدة.

نفس هذه اللازمة تستنِد إليها "حنّا أرندت" في خَطّها حدود إمكانية العيش مع الآخرين، ابتداءً من حدود قدرتنا على العيش مع أنفسنا. وكأن العزلة عند "حنّا" هي النقطة التي تحتكر صلاحية أن تكون مرجعية بالنسبة للانفتاح على الآخر.

وهو نفسه الطريق الذي غالبًا ما تسلكه الفلسفة ومنذ "أفلاطون" في التمييز بين الوحدة والعزلة، كما تستنطِق هي هذا الأخير أثناء ربطها بين التفكير ولازمة العزلة "فتعتبر التفكير من الناحية الوجودية، شأنًا منعزلًا وليس وحيدًا؛ فالعزلة هي الموقف البشري الذي أُبقي فيه على صحبة نفسي، أما الوحدة فتأتي عندما أكون وحدي وبلا صحبة، ولكني أرغب فيها ولا أستطيع أن أجدها".

الوحدة محكومة بسوء الفهم الأبدي من حيث انحيازها إلى تفتّح الروح أو انكماشها

إلى هنا تظهر الإرادة كمُحدِّد للفروقات الجوهرية ما بين الوحدة والعزلة، فالعزلة هي ما تفرضه إرادتنا على العالم، في حين تنتهي إرادة العالم المفروضة علينا إلى رهننا إلى الوحدة، تلك التي يصفها "فنسنت" في الرّسالة الشخصية إلى أخيه "ثيو" على أنها موت، بينما ما يمكن تسميته بالتفاعل يظهر ضمنيًا على أنه شعور الحياة نفسها. بمعنى أن العالم بمنأى عن أن تدُبّ في أوصاله الحياة إن لم نتفاعل وموضوعاته.

وقبل أن نفكر في ذاتِيّة تنتهي بإلزام العالم الصورة التي نرتئي مقابل صورته هو، وكما ستختصرها شعرية "سيلفيا بلاث" في: أُغمِض عينيْ فيموت العالم. يكون علينا للتمدد المنطقي الذي يميّز الحدود بين العزلة والوحدة، الأخذ بالتفكير في "الغربة" التي تعني بالضرورة العجز عن التفاعل وانفصال الإنسان عن الواقع. لا بمعنى فقدان القدرة على تغييره فقط، ولكن فقدان القدرة حتى على إمكانية التفاعل فيه، حيث تعجز الذات عن تحسّس نفسها من داخل هذا الواقع، وبالتالي عجزها عن المشاركة ولو بالحد الأدنى من صياغته؛ إذ أنها تكون وقتها غير موجودة، ببساطة.

وبتكرار إلصاق الاغتراب بالجغرافيا وترسيمات الحدود، تُفسَّر حالات الغربة على أنها وحدة من نوع ما، ويبدو هذا الاختزال واهنًا لو أننا التزمنا مُسبقًا بحدودنا الجغرافية، فرغم ذلك ننتهي إلى التعرف على أنساق من الوحدة المبهمة وغير المفهومة. لكن عند تدقيق النظر في موضوعات الحالة، سنجد الارتباط الوثيق بالوحدة يكشِف عن نفسه في انعدام التفاعل، لا من حيث هو نتيجة للوحدة، ولكن من حيث أنه ابتداءً يصيّر الذات إلى الاغتراب الكامل من الواقع ومن داخل حدودها الجغرافية، وينتهي بها إلى حيث الموات.

فلو نظرنا إلى أن حالة افتقاد الرقعة المكانية المألوفة كدرجة مستفحلة من درجات انعدام التفاعل، فذلك لأن الوطن معني أكثر بمرافقة تفاعلاتنا مع الزمن وما سيسقط منَّا مُشكلًا الفجوات بيننا والأوطان هو نتيجة مباشرة للمفارقة. إن الاغتراب هو تَسميتُنا بالبُعد والانزواء. والشخص غير الملاحظ هو شخص غير مُتفاعِل في المقام الأول، شخص مقصِيّ ومُبعَد عن المشاركة في صياغ الآن، وبالتالي لن يبدو وجوده الحيّ وقتها إلا من خلال ما تراه الذات مُهرَّبًا من تحت أعين الإرادة الخالصة للعالم.

إن الوحدة محكومة بسوء الفهم الأبدي من حيث انحيازها إلى تفتّح الروح أو انكماشها. والسبب في تداخلها والغربة، وقوفهما على أرضية واحدة - التفاعل من عدمه. بالرغم من أن الوحدة أشبه بلحظة توقف عن الصيرورة، ومسألة أن يكون أو لا يكون متجاوزة معها، فالمُرام من جملة الأفعال كلها هو التفاعل، وبعدمه تنشر الغربة أغطيتها على الوجود، لنقرأها نحن في أحايين كثيرة مجازًا على أنها ما تنسِجُه الوحدة فوق الرؤوس، طالما حققنا مقصد اللغة في قصر الاغتراب بالجغرافيا.

وما سيُبقي الإنسان بعيدًا عن وصوفات "وحيد" ليس الزحام، كما أن عدمه لا يعني تحقيق وجوده، فبوجود المخيلة يمكن دومًا الانشغال عن العالم بعوالم نشيّدها، أي بإيلاء ظهورنا للعالم وتركه "وحيدًا" في غرفة اللعب، فيما نحن منكفئون على أنفسنا في ركن خالي. وفي حال عدم توفر العوالم الخاصة ستكون إذًا الوحدة المعزولة أو تلك التي وسط الجموع؛ إذ لا يهم طالما أن ما يمكن الاحتكام إليه هو استمرار التفاعل من عدمه، وفي حالة الفنان فاستمرار التخلّق في العالم والتأثير فيه، ولو كان عالمًا خاصًا متخيلًا.

هذا لا يعني أن للفنان مُخيّلة متواضعة، بالعكس إن ذلك يُدلِّلُ على عظمة المخيلة للدرجة التي تنسحق أمامها القوى وتهوي الأبدان. فما يجعل من أصحاب المخيلات الجميلة، متفاعلين جيِّدين إلى جانب كونهم بنائين خفيِّين للعوالم التي لا تنتمي إليهم هي الحاجة إلى تخفُّفهم من زِنة العوالم الثقيلة المشيَّدة في التخيُّلات. إنهم يضعونها عنهم لمدة قليلة ينشغلون فيها بالتعرُّف على عوالم الآخر وفي التفاعُل معهم ومشاركتهم بالتالي شعورًا بالحياة.

في كل مرة سيكون فان غوخ أكثر مرحًا وانفتاحًا في كل مرة كان يضع فيها المخيلة أرضًا ويكتفي بتفاعل روحه المسترخية. 

وسيكون على جميع أصحاب الأرواح الحسَّاسة إنشاء عوالمهم الخاصة المبكرة، في صفقة ممهورة بالتعب والإرهاق والنوبات العصابية المتقطعة والمخاطرة الدائمة بانهيارات العوالم الداخلية في أية لحظة، وفي الوقوع في قبضة غربة مميتة من دون الدخول في تعقيدات العبور بين الحدود.

سيكون على جميع أصحاب الأرواح الحسَّاسة إنشاء عوالمهم الخاصة المبكرة، في صفقة ممهورة بالتعب والإرهاق والنوبات العصابية

ولو كُنَّا محظوظين كفاية فهكذا سنرى كيف يصير الإنسان إلى فنان فيغدو خفيفًا، وكيف أن الشعور بالحياة المُفتقدة يظهر كومضات لن تتوقف عن التوهُّج، ذلك ما بين اكتفائنا من تفاعلنا مع العالم وتجاوزه إلى عوالمنا الخاصة، وبين أن نلتقي ونقضي سُويعات في الرفقة.