19-أغسطس-2022
يحيى فضل الله

يحيى فضل الله

خرجتُ للتو من مدرسة "تلو" الثانوية العليا في "كادوقلي" بعد أن هربت من ناظرها "ونسي"، وقتها ركضت سريعًا ومررت بدار الرياضة ثم قابلت العم تاور وهو في طريقه إلى حلواني "كازابلانكا" المقابل لمستشفى "كادوقلي" والقريب جدًا من بنك النيلين لكنني فقدته في نقطة ما، فقدته عندما رنّ هاتفي وأدركت أنني هنا في القاهرة، متمددٌ على سريري وأحمل "كاد-يغلي" بين يدي؛ وشعرت بالاستياء، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي أصبت فيها بالإحباط من تداعيات الأستاذ يحيى فضل الله؛ لأن كتاب "كادوقليات" كان أصدق مما يجب.

لم يوظف يحيى فضل الله حنينه لالتقاط صور السعادة والجمال فحسب؛ لكنه كان شجاعًا بما يكفي لإظهار البشاعة التي ترقص خلف الكواليس

في الفصل الأول من كتابه "التجاهل" يشير ميلان كونديرا إلى مفهوم النوستالجيا، ويذكر أن مرادف هذه الكلمة في اللسان الإغريقي يتكون من صدر وعجز، الأول "نوستوس" وتعني العودة، أما الثاني فهو "آلقوس" وهي المعاناة ببساطة، أي أن النوستالجيا هي المعاناة بسبب عدم تحقيق الرغبة في الرجوع.

تحريض لذيذ

المعاناة تحقق العظمة والنجاح، وعطفًا على ذلك فهي أداة تأديبية من الطراز الرفيع؛ لكنها بالنسبة إلى المبدع لا تتوقف عند هذا الحد، بل تستحيل لتصبح شرارة الإبداع الأولى. ويحيى فضل الله المتنقل ما بين السودان وجمهورية مصر وكندا، يدرك جيدًا طعم الحنين المر واللذيذ في آنٍ واحد، ويعلم جيدًا كيف يمتص هذه الوحشة لترى النور على شكل قصص تلامس أركان وجودها بكل صدقٍ ووضوح.

https://t.me/ultrasudan

توظيف الأماكن، التفاصيل، الوصف، اللغة العامية، الخيال الشعبي، المفارقات، السخرية والناس أنفسهم، لتحقيق أثر النوستالجيا المطلوب لا يمكن هجر فكرةٍ ولا حتى واحدةٍ من هذه العناصر من دون الإخلال باتزان العمل الأدبي، وتمكن يحيى فضل الله من توظيف كل هذه العناصر في كتابه "كادوقليات" الذي يسرد فيه ذاكرة الأمكنة لديه بكل شفافية.. لكن، من أين جاء بهذا الدافع الصادق؟

يناقش يحيى فضل الله بنفسه في لقاء تلفزيوني قبل خمس سنوات دور النوستالجيا في أعماله المختلفة وكيف استند إليها وكتب تداعياته التي يناقش من خلالها ارتباط الذاكرة بالمكان والسجال بينهما. يؤمن فضل الله بأن تنقله بين ثلاث دول (السودان ومصر وكندا) جعله يطور صورة أكبر وأعمق للعالم، وتمكن في هذه الرحلات من استكشاف عوالم جديدة وثقافات أصيلة، كما تغيرت نظرته إلى العالم الخارجي وطور رؤية مختلفة للشخوص والعوالم وحتى البيئة.

لم يكن هذا الحال فحسب، لكنني أعتقد أن هذا الترحال الكثير جعل الحنين لديه مستيقظًا طوال الوقت، فكادوقلي التي ترعرع فيها لم تسقط من ذاكرته عندما ارتحل إلى الخرطوم، وهذه الأخيرة لم تتركه وشأنه عندما وطأ أرض الكنانة ومنها إلى كندا بعد خمس سنوات طوال.

وكما يقول عن نفسه، فقد تمكن من استثمار حالة الحنين التي لازمته طيلة حياته وحولها إلى كلماتٍ وأقاصيص. هذه النوستالجيا ليست "نوستوس-آلقوس" فحسب، بل تمتد إلى أبعد من ذلك لتستحيل تحريضًا لذيذًا على الكتابة، لأولئك الذين وهبهم الله هذه الملَكة.

كسر النمط

عند ذكر الحنين أو النوستالجيا يُنظر إلى الماضي على أنه دائمًا ما كان جميلًا ومشرقًا ومثاليًا بالتناغم مع الجملة المبتذلة "الزمن الجميل". وكان يحيى فضل الله في مجموعته القصصية مدركًا لهذا الأمر، لكنه لم يذعن له ولم يجعله ثيمته الأساسية؛ فأتى على ذكر تفاصيل القهر والظلم التي وقعت حينها بتطرقه إلى واقعة قتل محمد علي حمامة وغيره من سكان كادوقلي بالبنادق السياسية، كما استنكر الاستلاب الذي حدث؛ إذ كتب عن "سينما كادوقلي" التي يرتبط بها ارتباطًا وثيقًا والمملوكة لشخص يدعى "عمر خليفة"، وكانت بعض قبائل النوبة تحتفي بها -السينما- تحت وقع الأقدام التي ترقص "الكمبلا" وتتغنى بأغنية لا يُفهم منها سوى جملة (عمر خليفة سوَّى سينما) التي تم تحريفها فيما بعد عند افتتاح المسرح القومي عام 1994 ليرقص بعض الحاضرين "الكمبلا" وهم يتغنون بـ(عمر البشير سوَّى سينما).

لذلك لم يوظف يحيى فضل الله حنينه لالتقاط صور السعادة والجمال فحسب؛ لكنه كان شجاعًا بما يكفي لإظهار البشاعة التي ترقص خلف الكواليس، هذا القلم الجريء لا يُكتسب بسهولة ولا يأتي من العدم، يحتاج إلى الذاكرة وإصرار قبحها.

كوكو كاد يغلي

أطلقت أستوديوهات بيكسار في العام 2017 فيلمًا اسمه (كوكو)؛ تدور أحداثه في قرية بالمكسيك، حول فتى اسمه "ميغيل" مولع بالموسيقى وبموسيقار راحل يدعى "إرنستو دي لا كروز" والاحتفال السنوي الذي يطلقون عليه "مهرجان الموتى". وفي خضم الاحتفالية يجد "ميغيل" نفسه -بطريقة أو بأخرى- وقد دخل أرض الموتى، وهناك قابل رجلًا ميتًا يائسًا يدعى هيكتور. ظل الأخير يحاول إقناع "ميغيل" بأن يأخذ صورته الفوتوغرافية إلى عالم الأحياء، في مقابل أن يتيح له ملاقاة "دي لا كروز"، ثم نكتشف فيما بعد أن هيكتور كان يحاول منع نفسه من الموت؛ ففي عالم الأموات يموت المرء مرةً أخرى وإلى الأبد عندما تُمحى صورته من ذاكرة الأحياء.

يخاف يحيى فضل الله على كادوقلي من الموت، ليس أن تموت في عيون العالم؛ لكن أن تنسحق كما الحشائش في ذاكرته

في البداية لم أكن أرى رابطًا قويًا يجعل هذه المقارنة بين كتاب "كادوقليات" وفيلم "كوكو" ممكنة، لكن عندما سقط مني الكتاب وقرأت كلمات الناشر (دار ويلوز هاوس): "في هذه التداعيات حنين إلى الماضي والأشخاص والأماكن، وكأنه حفظٌ لها بين ضفتي كتاب خوفًا من الفقد والنسيان".

وقتها تيقنت تمامًا أن يحيى فضل الله يخاف على كادوقلي من الموت، ليس أن تموت في عيون العالم؛ لكن أن تنسحق كما الحشائش في ذاكرته تحت أقدام أفيال الخرطوم والقاهرة وشوارع مونتريال.