03-أكتوبر-2022
رسالة إيلين

رسالة إلى إيلين

بما يمكننا اعتباره إحدى ثيمات أعمال الطيب صالح، تستمر "العودة" في إضاءة الوجود الذي ينتمي إليه السّارد. ومن ثم استحضار النص لمفاهيم كالوطن والأهل والعشيرة، تبدّل الزمن.. إلخ، في إطار إبداعي يجعل منها القابلية الأكثر إمكانية لإنجاح هذا الاستيعاب الإنساني للفرد، لذاته، وللآخر، والآخر الغريب، عن طريق مفهومية يتوصّل إليها بواسطة الفنون في عمومها والأدب في خصوصيته.

رغم قصر الرسالة النسبيّ إلا أن موضوعها يجعلها من أهم الأعمال الأدبية للطيب صالح، ومن تلك المرشحة للبحث في العلاقة ما بين الشرق والغرب

وبما يمكن اعتباره وظيفة من وظائف الأدب في عمله كفضاء محرَّر من الظروف القسرية التي يفرضها الواقع، بما يمنحنا من أفق يسمح بمداولة هذا العالم نفسه، لكن بخصوصية الإنساني فيه لتحقيق ما يرتجى منه -أي الأدب- في توجيه رغبتنا نحو ممارسة أفضل للعيش في زمن أضحينا فيه رهنًا للجغرافيا والتاريخ اللذين انتهيا إلى ما أبعد من حدودهما حتى صارا لا يساهمان في تشكيل الإنسان فقط، ولكن يحتكران مصيره أيضًا.

في "رسالة إلى إيلين" تواصل ثيمة العودة استمراريتها، إذ يعود السّارد إلى أهله، ولكن في هذه المرّة لا يتم توظيف المقابلة التي دائمًا ما يحوزها السّارد عند كل عودة في إضاءة عالمه فقط، ولكن أيضًا لإضاءة علاقته وذلك العالم الذي تنتسب إليه "إيلين".

وبالإضافة إلى الكشف الذي يختص به متن الرسالة من نقاش لاحتمالات نشوء علاقة إنسانية في واقع يضع كل من طرفيها في عالم مختلف، حاقنًا التقاءهما الإنساني هذا بالتاريخ والجغرافيا، فهي تذهب إلى تأكيد هذا الاحتمال القائم في نشوء رابطة بين إنسانين ولو كانا من عالمين مختلفين "أنت من أبردين في إسكتلندا وأنا من الخرطوم، أنت مسيحية وأنا مسلم".

ورغم قصر الرسالة النسبيّ إلا أن موضوعها يجعلها من أهم الأعمال الأدبية للطيب صالح، من تلك المرشحة للبحث في العلاقة ما بين الشرق والغرب وتشخيصها بطريقة أكثر عبقرية. فالرسالة كنوع أدبي تتفوّق على كل من القصة والرواية في كونها أكثر ذاتية في تناولها لموضوعها، فهي بالتحديد رسالة شخصية.

https://t.me/ultrasudan

وبينما تخضع القصة/الرواية إلى تقاليد الصَّنعة، لا في الشكل فقط ولكن في الطريقة التي سيختارها هذا الشكل في إظهاره للمعنى، تأتي الرسالة متحرِّرةً من النتيجة التي ستفرضها التقاليد الشكلية التي تمثل القالب القصصي/الشكل الروائي.

غير أن هذا لا يتعارض مع بديهية أن للرسالة الأدبية شكل في الأخير، غير أن هذا الشكل الذي سيتم بداخله إنتاج المعنى لا يخضع -في علاقته مع الواقع- لتأثيرات الشكل التي تخضع لها القصة/الرواية؛ فللأخيرة أخذ الشكل صورته عبر مرور الزمن من داخل هذه "العلاقة مع الواقع". فابتداءً هي معنية بإمعان النظر في حدث بعينه/سلسلة أحداث يُشرّح به/بها الوجود عن طريقة مقابلته/ها بوجهة نظر معينة. وهو ما افترض في تطوره القصة/الرواية عبر الزمن الانهماك في تشييد عوالم درجة انتسابها إلى الواقع حسب رؤية القاص/الروائي.

فالشكل الرِسَّالي الذي لا يمكن سلخُه من الوظيفي الذي تؤديه يتضمن في تقليده ضرورة وجود مُرسِل ومستقبِل، وموضوع يتصدَّر النص بغية إنفاذ الغرض من الرسالة في الأساس، ألا وهو "الإِخبار" عن هذا الموضوع. وبما سيكونه بالتالي من الإمعان في الذاتية والمُباشرة أثناء اشتغاله على موضوع محدد يتم في أثنائه نقل الأحداث الواقعة في هذه الفترة الزمنية، ومن ثم لا يستدعي تقليد الرسائل الخيال إلا فيما تقتضيه البلاغة من نسجٍ للاستعارات وتوليدٍ للمجازات. فالرسائل متورطة بواقع زمني بعينه تكشفه ارتباطات المعنى المتضمَّن في هذا الشكل، وتحكمها وظيفة "الإِخبار" التي تقوم بها، درجة اعتبار الرسائل دونًا عن غيرها من بقية الأنواع الأدبية "وثائق" تنقل هذا "الواقع" الذي تُنتج فيه.

 أثناء ما تأخذ شكلها من البلاغة، ومن المتعة في إنتاج لغة رفيعة تُبثّ عبرها الأفكار والمشاعر، في استعراض لغوي وفني يجعل المعنى داخل شكل براق من اللغة. تولِي الرسالة اهتمامًا خاصًا بتعريف المُرسل إليه، ينتهي إلى تعريف موضوعها، ديواني أو شخصي. ويكتفي في "رسالة إلى إيلين" التعريف بلغة المُرسِل المعبّر عنها ببساطة "عزيزتي إيلين".

وطالما هي شكل من الأشكال الأدبية، فهي متاحة لإعمال العبقرية في بنية هذا الشكل وتطويره في حدود، ليعكس بالتالي صورة كاملة عن واقع ما قبل هذه الرسالة. وإذ تبدأ الرسالة بـ"الآن انتهيت من فضّ حقائبي"، تفصح هذه البداية عما تُقرِّره الرسالة مسبقًا من غياب هذا الآخر المُرسل إليه، وضمنياً بما ستضمره من مشاعر جعلت أول عمله بعد الوصول وفضّ الحقائب هو الكتابة إلى "إيلين".

على عكس القصة/الرواية التي لا تخضع للذاتية، وأيضًا لا تستغني في سعيها للكشف عن الوجود عن نَوْلَ الخيال في حِياكة عوالمها، تأتي هذه الحاجة كحقيقة تُثبت نفسها من داخل منطق الأنواع الأدبية، إذ أن ما ترومه القصة/الرواية لا يَدِين بوجوده في المطلق للانتساب الخالص إلى الواقع، فالقصة/الرواية كنوع أدبّي يتطوّر ويندفع إلى الأمام بسبب حركة داخلية لمجموعة من التقنيات التي تعطيه في الأخير الشكل الذي يمكن اعتباره نسبها إلى الأنواع، يظل ارتباطها بالواقع تفاعليًا، إذ لا يعد الإِخبار عن هذا الواقع أولويةً أو غايةً من وجودها.

إن القصة تحكي حدثًا معينًا، معنيًّا ببطل القصة الذي يتحرك داخل مجازه الخاص في عالم القصة الذي ليس هو نفسه العالم الواقعي، ولكنه أحد مئات الطرق للتعبير عن هذا العالم الواقعي.

كذلك ينطبق على الرواية ما ينطبق على القصة، فالرواية في طريقها إلى كشف هذا الوهم المُتعلق بارتباطنا والواقع ونظرتنا الأُحاديّة إليه، لا تجد بُدًا من نسج وهمٍ خاص بها في أثناء تشييد عالمها الذي "ينتسب إلى الواقع" بطريقته الخاصة. ذلك في سبيل كشف هذا الوهم ولفت انتباهنا إلى العالم الإنساني المتواري خلف التاريخ أو كما يقول "م بارغاس يوسا": "كل رواية هي كذبة تحاول التظاهر بأنها حقيقة".

لا يتعارض الشكل الذي تجد الرسائل نفسها فيه مع صورة "الواقع" الذي يوجد ضمن نفس النطاق الزمني الذي تتحرك فيه الرسالة

كنتيجة نهائية لا يتعارض الشكل الذي تجد الرسائل نفسها فيه مع صورة "الواقع" الذي يوجد ضمن نفس النطاق الزمني الذي تتحرك فيه الرسالة، بل يمكن دومًا اعتبار الرسائل الشخصية وثيقة تاريخية، وبمطالعتها وقتها فنحن نجد أنفسنا ننظر مباشرةً إلى هذا الواقع من دون أن تحجبنا أيّ من تقنيات القصة/الرواية.