23-أغسطس-2022

الطيب صالح

"يفتح الله!"… في مواجهته للأزمة التي وضعته فيها الحكاية لا يملك الشيخ محجوب بطل قصة "نخلة على الجدول" غير هذه الجملة، ففي الغد يكون العيد ولا مال لشراء كبش الأضحية أو كسوة أهل بيته. وهي الحقائق ذاتها التي سيذكّره بها حسين التاجر من أجل حثه على بيع نخلته "الأساسق".

في "نخلة على الجدول" ينهمك السارد في وصف يبدو في صالح انتماء فضاء القص إلى الواقعية، بينما يغيب محجوب، إذ لا وجود للبطل بعد، سوى في قوله جملة "يفتح الله"

والقصة على بساطة هذه الجملة التي تُستفتح بها، تحاكي موقفًا بسيطًا لقارئ يتلقى هذا الإخراج للحكاية، حتى لو لم ينتمِ إلى هذا الواقع نفسه. قصة مزارع بسيط تضعه الحياة في ظرف متعسر يجعله عرضة للاستغلال. 

بذلك تنتمي القصة إلى الواقعية؛ كونها ومنذ البداية تلتزم بمطابقة أحداثها للواقع، فالحاجة إلى المال والعيد الذي يحل غدًا هو ما يجعل محجوب في وضع حاجة لا يملك معها متسعًا من الخيارات. والتاجر هو الأوفر حظًا في موافرة النقد، وعلى هذا هو المرشح الأمثل لاستغلال هذه الوفرة مقابل الحاجة. والأوصاف اللاحقة لمحجوب وكلامه وأحاسيسه الداخلية تأتي مطابقة لنفسية معسر أمام فرص تدعي المساعدة فيما تضمر الاستغلال.

إن هذا الانتماء إلى الواقعية لا يرتقي أن يكون هدفًا، فالقصة -عكْس الشعر والمسرح- كفن حديث انحدرت من جنس الأسطورة تقودها تقاليدها إلى التوجه بكليتها إلى الإنسان. ولتحقق هذا التقليد فهي تتجه إلى وضع أحداثها في واقع مشابه للحياة التي يوجد فيها هذا الإنسان.

وبالمعنى الذي يورده أوليك أويرباخ في حديثه عن السمات التي تميز القصة، نجد أن التفاصيل الزمانية والمكانية عندما توجد في القصة، تكون منتقاة بالضرورة التي تلزم الاتجاه الذي تتقدم فيه الحبكة، ملتزمةً بذلك في تحقيق خاصية القصة القصيرة كونها محدودة البنية.

فعندما يوجّه السارد سرده لمصلحة وصف المحيط المكاني فإنه لا يقصد إجراءً مدفوعًا بغية تثبيت أركان المكان لتعزيز واقعية القصة، ولكن -بالإضافة إلى ما سبق- ليخدم مصلحة السرد في جمالية يرومها بالكشف عن "هواجس" البطل. وهو ما يقره النقاد في أن القصة القصيرة تنتج الجمالية بالتأرجح بين تقاليد الرومانسية والواقعية.

https://t.me/ultrasudan

ويلوح في حديث شارلز ماي عن بنية القصة القصيرة الإشارة الى إبراز التمايزات التي تفرق بين نوعين من الشخصية القصصية، إذ يحرك "هاجس ما" الشخصية الرومانسية القديمة، بيننا يحرك شخصيات القصص القصيرة للقرن التاسع عشر "هاجس واقعي" أو "سيكولوجي". وبما أن الشخصية القصصية تتحرك وفقًا لمتطلبات القصة والمجاز، لكن في إطار التشابه مع العالم الحقيقي، وعليه تتحول الشخصيات نفسها داخل القص إلى مجاز؛ أيّ أنها تصبح واقعة في خطاب من صنع مجازها وهاجسها الخاص.

في "نخلة على الجدول" ينهمك السارد في وصف يبدو في صالح انتماء فضاء القص إلى الواقعية، بينما يغيب محجوب، إذ لا وجود للبطل بعد، سوى في قوله جملة "يفتح الله" في مطلع القصة. فهو يغيب تمامًا، ولا يُوصَف بأيّ ملامح أو صفات أو هيئة، قبل أن يحيلنا السارد إلى هذا الغياب "كان يبدو في وقفته تلك كالمشدوه، يرنو إلى أفق بعيدٍ متناءٍ".

يهيئ لنا السارد أن نزاهته تتجلى في منحنا واقعية للقص، لكن في أثناء غياب محجوب، يستمر السرد السلس وصولًا إلى عودة النخلة إلى السياق؛ فيصفها "ممشوقة، متغطرسة، تتلاعب بغدائرها النسمات…" وكأنه يواصل مهمته في نزاهة هذا النقل لواقع الحكاية، إلا أنه يعطينا في المقابل أول خيوط المجاز لبطله. يعطينا ما تمثله النخلة لمحجوب (نسبة إلى ما تحكيه القصة فمحجوب كان أبعد ما يكون عن الكبرياء، بل بالعكس كان أعزلًا في مواجهة كبرياء حسين التاجر وغروره) من هذا التمثل سيسلط الضوء على وجود البطل كاشفًا أكثر عن طبيعة هواجسه.

إن معرفتنا بمحجوب لا تتم إلا عن طريق استذكاره للماضي، وهو المكان الذي يكون فيه فاعلًا، ويحضر فيه، ابتداءً من مناسبة غرسه النخلة

تأخذ شخصية محجوب في الظهور، إذ يوليه السارد انتباهه، لكننا لا نجد أمامنا غير غياب محجوب نفسه. إذ سيخبرنا السارد أن إدراك محجوب كان لحظيًا في التقاطه ضوضاء الوسطاء، إدراكٌ ما لبث أن تلاشى. وعندما يحاول السارد نقل ما يبصره محجوب، سنجد أن الناس والبهائم وغابة النخيل وأحواض الذرة، وقطعان الماشية، تتحول جميعها في نظر محجوب إلى أشباح! أشباحٍ "يتراقص في وسطها جريد نخلة محجوب".

ويشبه الحاضر بالنسبة إلى محجوب حلمًا مزعجًا، وهو حاضرٌ ضئيلٌ وضيقٌ لدرجة استحضاره فقط في لمحة تسمح بعقد مقارنة بين ما يكونه الاعتيادي للعيد وبين ما سيكونه واقع محجوب القصصي. ولشسوع المسافة -تلك التي يقطعها محجوب بينهما- لا يجد ما يردم به هذه الهوة سوى قوله "يفتح الله…" التي يخبرنا السارد بخروجها في هذه المرة شبيهةً بالتوسل والابتهال منها إلى صيغة تستخدم لرفض المبايعة.

إن معرفتنا بمحجوب لا تتم إلا عن طريق استذكاره للماضي، وهو المكان الذي يكون فيه فاعلًا، ويحضر فيه، ابتداءً من مناسبة غرسه النخلة وما تلتها من أحداث تكشف لنا عن ماهية يتأسس عليها وجود محجوب، فزواجه والأحداث السعيدة التي تلته هي أقرب إلى معجزة حصلت بعد غرسه "النخيلة" بثلاثة أشهر. وهو ما يؤكده السارد: "وهو لا يدري إلى الآن كيف تمت المعجزة. إنه لم يكن يظن أبدًا أنه سيتزوج في يوم من الأيام".

يقطع تدفق عالم محجوب في الماضي، انتهار التاجر له طلبًا لإجابة نهائية، وينهق الحمار؛ فيعود البطل إلى واقعه الذي لا يملك فيه من أمره شيئًا، إلى واقع مأزوم، وسيحل العيد غدًا لا محالة كما حلّ العوز مكان القدرة على إدخاله الفرح على أهل بيته. ويعزز السرد من قوة هذا الواقع بواسطة شخصية رمضان الذي يجيء خصيصًا لهذا الغرض، إذ يقول لمحجوب إن الثمن الذي يعرضه التاجر ثمن معقول وأنه أحوج ما يكون إلى المال!

تتضح شيئًا فشيئًا -من المنحنيات التي تتكرر- الدائرية التي يعتمدها السرد في دفعه بالحكاية إلى نهايتها؛ إذ يشتد مجددًا خناق الواقع على محجوب، وتستمر الحبكة بالتصاعد، وصولًا إلى ذروة الحكاية، وهي اللحظة التي سيعاود فيها مجاز محجوب الظهور، وينتصب في مواجهة الواقع: "ولكن ريحًا قوية هبت تتلاعب بجريد النخلة، فأخذ يوشوش ويتعارك ويتلاطم كغريق يطلب النجدة. وبدت النخلة لمحجوب في وقفتها تلك رائعة أجمل من أي شيء في الوجود". 

يهفو تبعًا لهذه الرؤية -التي لا يبصرها حسين التاجر أو رمضان- قلب محجوب لابنه الذي هجرهم إلى مصر. وتتضافر رؤية نخلته تلاعبها الرياح مع هذا الخاطر؛ فيحس بالأمل يملأ كيانه ويطغى على إحساسه، ورغم أن لا شيء قد تغير على أرض الواقع، ولا دليل ملموس على انفراج سيحدث، إلا أن محجوب يتمتم "يفتح الله، أنا تمَرتي ما ببيعها".

إذًا ينتصر مجاز محجوب على هذا الهاجس الذي صنعه واقعه. ومن ثم يواصل نزوحه إلى داخل هذا المجاز عن طريق تدبره العميق والمتأني لعبارة "يفتح الله!" ويعيد إفراده على هذا الواقع بمطابقته لأحواله.

ومن ثم فإن الواقع ما عاد هو نفس الواقع، فالمجاز ينتصر على الهاجس، ويخضع العالم الخارجي إلى سطوة هذا المجاز، ويجعل من تلاعب الهواء بالنخلة -وقتها- رمزًا للأمل، بينما يتضاءل وجود التاجر حسين. إنه -أي محجوب- يتجاهل حتى رميه استياء حسين المحمّل بدلالات يصفها السارد كوقع السوط: "باكر تجيني طالب الدين"، لكنه سوط لا يطال محجوب، ولا يتعدى كونه تعبيرًا يورده السارد ليصف سخط التاجر الذي لم يعد له ذاك الوجود الثقيل. وعندما يعيدنا السرد إلى المشهد؛ فكل ما نراه هو حمار ينطلق بعيدًا، بينما ابنة محجوب الصغيرة تهرول باتجاهه حاملة معها خبر وصول "ود ست البنات" من مصر، يحمل جوابًا من ابنه حسن.

تغلق حلقة السرد الذي ابتدأ بجملة "يفتح الله…" بانتصار محجوب كشخصية قصصية يحركها هاجس واقعي، تنتج مجازها الخاص من داخل الحكاية

تغلق حلقة السرد الذي ابتدأ بجملة "يفتح الله…" بانتصار محجوب كشخصية قصصية يحركها هاجس واقعي، تنتج مجازها الخاص من داخل الحكاية، ويستطيع النجاة من داخل هذا المجاز من العالم الواقعي. وعندما ينحدر السارد في النهاية إلى منظر غابة النخل الكثيفة الممتدة عند أسفل البيوت، يميّز نخلة محجوب "ممشوقة متغطرسة جميلة تتلاعب بجريدها نسمات الشمال"، فيما يُخيّل إلى محجوب بأن "سعف النخلة عندما يرتجف بنسمات الشمال فهو يسبح "يفتح الله، يفتح الله".