19-أكتوبر-2020

إبراهيم موسى أبا (الترا سودان)

هل للمغني إبراهيم موسى أبا [1945-1995] دورٌ في أنْ ينطمس أثرهُ وسيرتهُ الغنائية والموسيقية عند كثير من السودانيين؟ أم أنّ الأمر متعمّد؟ أم أنّ ما قدّمه من موسيقى وأعمال وكلام؛ لمستْ فيه أذن السودان الأوسط غرابة مفردة، وكثافة موسيقى، وسخونة إيقاع، فلم تألفه، وبالتالي لم تهتم به؟ أم أنّ الفترة الزمنية التي شهدت ظهور إبراهيم موسى كانت ضاجّة بالأسماء والتجارب الجديدة والمثيرة والمدهشة غنائيًا وموسيقيًا، وبالتالي لم تترك له مساحة يستحقها وتستحقها تجربته؟

كانت بداية علاقته بالغناء، أصوات الهدايين، ومفردها "هدّاي"، وغيره من ضروب الغناء الشعبي الكردفاني

أثّرت جماليات المكان بإقليم كردفان الكبير، على صوت المغني إبراهيم موسى أبا، وعلى تجربته. فأخذ من جمال رمالها نصاعة الصوت، وحُلو التطريب، فأنتج أغنياتٍ بطعم الكركدي، ورسوخ التبلدي. أغنياتٌ على شاكلة "عِز التوب"، "البنيّة مالكي"، "ما دوّامة"، وغيرها الكثير من الأغنيات.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "الحديث عن الأشجار" يستمر في حصد الجوائز السينمائية

كانت بداية علاقته بالغناء، أصوات الهدايين، ومفردها "هدّاي"، وغيره من ضروب الغناء الشعبي الكردفاني. وكذا استماعه لأغنيات مسموعةٍ كثيرةٍ كان يُرددها شقيقه الكبير حمزة. ثم لما استحسن الناس صوته، انخرط مغنيًا ضمن فرقة فنون كردفان، التي تأسست في العام 1962، ذات الصيت الوافر في الغناء والموسيقى في كردفان، وفي السودان فيما بعد. وساهمت في رفد حركة الغناء في السودان بالعديد من الأصوات الغنائية، يأتي في مقدمتهم: صدّيق عبّاس، عبدالقادر سالم، عبدالرحمن عبدالله، محمد عوض الكريم القرشي، أم بلينا السنوسي، عبدالعزيز العميري، وغيرهم وغيرهم.

بجانب انخراطه ضمن فرقة فنون كردفان، اشتغل المغني موسى إبراهيم أبا في العديد من المهن، بدأها بالحدادة، ثم حياكة وتطريز الثياب النسائية، التي أخذ فيها زمنًا طويلًا بأسواق كردفان، ومنها إلى أسواق الخرطوم وبحري، قبل أنْ يتركها إلى إصلاح الساعات، ومنها إلى القوات المسلحة، التي عمل فيها جنديًا بسلاح الموسيقى حتى تاريخ تقاعده فقط قبل سنتين من وفاته في الثالث والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1995.

إلا أنّ أبرز محطتين في تجربته الغنائية، تسجيله أولى أغنياته: "ما دوّامة"، ضمن أغنيات أخرى، في برنامج "ساعة سمر"، بداية الستينات. لكنه تأثر بحسب ما يحكي في أكثر من لقاء، بعددٍ من المغنيين، منهم أحمد الجابري، زكي عبدالكريم، وإبراهيم إدريس ود المقرن، الذي كان يُقلده بالأبيض والمجلد وغيرها قبل حضوره بداية الستينات إلى الخرطوم. أما المحطة الثانية في تجربته الفنية، فهي في لقائه بالموسيقي والملحن بُرعي محمد دفع الله، الذي تمّ إيفاده لمديرية كردفان، من وزارة الاستعلامات، للإشراف على مهرجان المديريات في 1963، حيث تمّ اختيار إبراهيم موسى أبا لتمثيل مديرية كردفان بمعية عدد من زملائه من مغنيي كردفان مثل: صدّيق عباس، وأم بلينا السنوسي.

وبالرغم من أنّ إبراهيم موسى أبا قدم العديد من الأغنيات التي لا تنتمي إلى الإقليم الغنائي الكردفاني، إلا أنّ التي قدّمها من الغناء الكردفاني لاقت انتشارًا كبيرًا، وعرّفت الناس به وبصوته المميز. ولهذا لاقت أغنيات مثل: ما دوامة، العجكو، عيني عليك باردة، البنية مالكي، انتشارًا واسعًا، لسبب مباشر أنّها مختلفة عن ما هو متداول من غناء مسموع، وهي خصوصية غناء كردفان.

وتغنى أبا للعديد من الشعراء، أبرزهم: عبدالله الكاظم، بشير عبدالعال، مصطفى عبدالهادي، كباشي حسونة، وبشرى سليمان، الذي تغنى له بأغنية الشهيرة (عز التوب). كما لحّن له عبد اللطيف خضر، عبدالماجد خليفة، ومحمداني مدني.

وفي حوارٍ مع مجلة الإذاعة والتلفزيون، يعود تاريخه إلى آب/أغسطس 1974، يقول أبا بأنّ الأغنية الكردفانية موسيقاها دسمة، وإذا وجدت الرعاية التي تطوّرها وتنميّها، ستتطوّر وتطغى على كل أغنية في البلد. ويُضيف "الأغنية الكردفانية فيها مساحات موسيقية واسعة، وتقبل أي آلات حديثة فيها". وهو ما قام به المغني أبّا في تجربته الفنية، وتحديدًا في أغنية "ما دوّامة"، التي لقيتْ ذيوعًا وانتشارًا كبيرًا، بعد أنْ أجرى عليها تعديلات موسيقية ولحنية، وقدّمها بصوته الصادح. وهي في الأصل من تراث المجموعات العربية بشمال كردفان، وتحديدًا منطقة أم روابة، التي يرد ذكرها في الأغنية.

والمدهش أنّ أغنية "ما دوّامة"، التي استطاع المغني إبراهيم موسى إخراجها من إقليمها إلى كل السودان، عبر إذاعة أم درمان، شهدتْ مرات ذيوع وتجدد كثيرة، آخرها الشهور الفائتة، حيث راجتْ بكثافة عبر أصوات عدد من الفِرق الغنائية الشعبية. ليس هذه فحسب، وإنما أغنية أخرى، نبشها إبراهيم موسى من تراث كردفان الغنائي، لكنها لاقت قبولًا عندما تغنى بها المغني الشاب مصطفى حمزة، وهي أغنية: "حِبّاني هوي".

اقرأ/ي أيضًا: عمر الدوش.. الشاعر والمسرحي الفيلسوف

وبعد، فإنّ مغنٍ بهذه السيرة والتجربة الغنائية الفريدة، تحار الأسئلة الواقفة؛ أنْ تجد لها إجابات تُجلسها على أرض الإقناع، كونه لا يجد مساحةً تُقدّر بذات تجربته الغنائية الفريدة والمميزة. اللهم إلا بعض أغنيات تثورُ في ساحات الانتشار والبعث من جديد كل مرةٍ وأخرى.

ما من شك أنّ المغني إبراهيم موسى أبا، واحد من المحطات الغنائية المهمة في كُرّاسة الغناء السوداني

فما من شك أنّ المغني إبراهيم موسى أبا، واحد من المحطات الغنائية المهمة في كُرّاسة الغناء السوداني. وهو بعد ذلك وقبله، تجربةٌ تتميّز بجمال الصوت وفرادة الأغنيات. تجربةٌ تصب في صالح التنوع الغنائي للسودان الكبيرة. وكان إبراهيم موسى أبا، واعيًا لهذه الخصوصية، فاختار من اللونية الكردفانية أعمالًا لاقت صيتها، حتى صارت أغنياته، مثل: "عيني عليك باردة"، و"ما دوّامة"، ما تزال على ألسنة الناس، وما تزال تنكتب على خلفيات المركبات العامة.

اقرأ/ي أيضًا

إعلان حالة الطوارئ الفنية.. وميثاق لحماية الفن والفنانين

تيريزا نيانكول مثيانغ.. أيقونة الغناء الثوري في جنوب السودان