10-أكتوبر-2020

عمر الطيب الدوش بريشة صلاح أبوالدو

في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر، قبل (22) عامًا، توقفت روح عمر الطيب الدوش [1948-1998]، عن الرفرفة والقلق. بعد سنواتٍ من إنتاج الإنسانية والجمال والمسرح وجميل الأغنيات. وضع يده الساحرة في المسرح، فتحوّل إلى أفكار جديدة، لم تألفها خشبة المسرح، ولا عروضه المسرحية. ووضع يده الساحرة على الأغنية، فسمع الناس أغنياتٍ جديدةٍ، بطعم المدافعة عن خير السودان، وحق السودان، وجمال السودان.

ينتمي الدوش، إلى جيل أتى بعد ثورةٍ كبيرة ما يزال أثرها محلقًا في كل الأصعدة

ينتمي عمر الطيب الدوش، إلى جيل السبعينات. وهو جيل أتى بعد ثورةٍ كبيرة ما يزال أثرها محلقًا في كل الأصعدة. في مجال التقنيات والاكتشافات، والإعلام، والسياسة والاستراتيجيا، وحتى صرعات الموضة. جيل الثورة المعني هذا هو جيل الستينات. وهي حقبة لم يكن السودانُ بمعزلٍ عنها، فقد شهد هو الآخر، ابتداعات في كل هذه المجالات. ولم يكن المسرح، ولا الشعر بدعًا عنها.

اقرأ/ي أيضًا: أحمد الجابري.. سيد الاسم

ينتمي الدوش إلى هذا الجيل، الذي استمرّت هذه الثورة معه إلى حقبة السبعينات. فاستمع الناس إلى مفرداتٍ مختلفةٍ وجديدةٍ في الغناء. وإلى إيقاعات ولحونٍ جديدة في الموسيقى والتأليف. وإلى كتابات وأفكار جديدة أنتجتها المطابع. وحتى إلى جماعات أدبية، وأحزاب سياسية أنتجتها الأفكار.

وبالتالي، تنتمي كتابات شعرية مثل: بناديها، الود، الحزن القديم، إلى هذا الضرب من التجديد في الكتابة الشعرية والغنائية على حدٍ سواء. وثلاثة هذه الأغنيات غنّاها المغني محمد وردي في حقبة السبعينات. بدايتها، وأوسطها ونهايتها. كما تنتمي إليها أغنيات أخرى مثل: الساقية، التي أداها المغني محمد وردي. وتمّ تحميلها بكمٍ هائل من الرمزية، والأسئلة الأمنية، والهُتافات النضالية. بل وتنتمي أيضًا سُعاد، التي غنّاها عبد الكريم الكابلي، وسحابات الهموم، التي غنّاها مصطفى سيد أحمد. ولا ينفصم عن هذا الانتماء؛ المسرحية الأثيرة عند الدوش نفسه: "يا عبدو ورق".

تغيب الحدود الإبداعية والفنية عند الدوش. ويُخيل إليك أنّهُ يكتبُ الشعر في المسرح. يبدو ذلك جليًا في عناوين مسرحياته، وفي حواراته بين شخصيات أعماله المسرحية. وعنايته الفائقة بالخيال المادة العُمدة في الشعر. كما يُخيّل إليك أنّه يكتب المسرح في الشعر نفسه. إذ تضجُ قصائدهُ بالشخصيات والأسماء والأمكنة والتصاوير.

كان يكتب الشعر والمسرح كيفما اتفق هو، وكيفما اتفقت لحظة الكتابة. يكتب على الأرض، أو في قصاصةٍ ملقية ومهملة. يكتب على أوراق عُلب السجائر، أو على حواف وسطور أية صحيفة يومية. أو ربما يكتب على الرمل، في أحايين أخرى، عندما تعز كل هذه الخيارات السابقة. ولم يكن سيقرأ الناس أشعار الدوش ويتداولونها إن تُقيّض الأقدار لها مجموعةً من أصدقائه، جمعوا هذه الأشعار وطبعوها في ديوان، صدر بعد وفاته، واختاروا لها عنوان "ليل المغنين".

في السيرة الذاتية للشاعر والمسرحي عمر الطيب الدوش تُشير إلى أنه من مواليد 1948، بالمتمة، شمال السودان، وانتقل منها إلى الخرطوم، ثم التحق ضمن الدفعة الأولى للمعهد العالي للموسيقى والمسرح، مزاملًا لأسماء لها أثرها في الحركة المسرحية والدرامية؛ في السودان، فيما بعد: الريح عبد القادر، صلاح الدين الفاضل، هاشم صدّيق، وغيرهم. وعمل أستاذًا للمسرح بعد تخرجه في العام 1974، في المعهد الذي درس فيه، حتى تاريخ إحالته للصالح العام، عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 1989. كما تُشير سيرته الذاتية إلى أنه أكمل دراسته العليا في المسرح بجامعة تشيكوسلوفاكيا، وإلى كونه اقترن بالدرامية سعاد محمد الحسن، المسرحية المعروفة. ويتردّد في أكثر من موقف أنّه كتب قصيدته الشهيرة "سعاد" فيها، لكنه يشير في حوارٍ صحفي أنّ القصيدة مكتوبة قبل لقائه بزوجته سعاد.

يحكي عنه من يعرفونه، ومنهم: عبد الله الزين، يحيى فضل الله، كمال حسن بخيت، محمد طه القدّال وغيرهم كثيرون، أنّه كان في غايةٍ من البساطة والسهولة واليُسر في الحياة. وبذات القدر غاية في الشدة في التمسك بمبدئه. وصارمًا في فكرته. وشديدًا في مخياله. وأمينًا للمسرح الذي أحبه، في مقالاته التي كان يبثها بين فينةٍ وأخرى، على صفحات الصحف، في زاويته المشهورة: "عن المسارح نحكي".

في جلسة أنس، يسأل بروفسور علي المك، القاص والمسرحي يحيى فضل الله، عن أغنية الأخير "يا ضلنا"، التي غنّاها مصطفى سيد أحمد. عن الكيفية التي اهتدى بها إلى فكرة المطلع في صيغة مناداة الظل، أو الضُل في عامية غالب أهل السودان. يُجيب يحيى فضل الله بأنه لا يعرف الطريقة التي خطرت له فيها الفكرة، لكنه يتذكّر جيدًا أنه كان مستسلمًا لها فقط.

ثم ينساب الأنس عن فكرة الظل في الأغنية السودانية، فيُعيدهم إلى "بناديها"، التي كتبها عمر الطيب الدوش، في "واسأل عنها المستقبل/ اللسة سنينو بُعاد/ وفي أحزان عيون الناس/ وفي الضُل الوقف ما زاد". ثم يسأل يحيى فضل الله علي المك، هل يعتقد بأنّ الظل الذي توقّف عن الزيادة، تعبير يدل على معنى الثبات، وجمود الزمن، أم شيئًا آخر.

يُجيب علي المك سريعًا، أنّ الأغنية السودانية، إجمالًا لها القدرة العالية على تسريب مفاهيم فلسفية، في غاية التعقيد إلى آذان المستمعين. ويضرب علي المك أمثلة، بتساؤلات الحقيبة، في: "إنت صاحي؟ ولا نايم؟ ولا طرفك من طبعو نعسان؟". أو بالتساؤل الآخر: "نحنا هل جنينا؟ أم عقولنا نُصاح؟". ثم ينسرب أنس الحديث عن الظل بين المك وفضل الله إلى رواية "الرجل الذي فقد ظله"، أو "اللذين هم بلا ظلال". أو "قضية ظل الحمار". 

اقرأ/ي أيضًا: زيدان إبراهيم.. عندليب السودان الأسمر

الشاهد في أنس الأديبين: علي المك وفضل الله، أنّه اتكأ على الأسئلة التي ظل يُطلقها الدوش في قصائده، وعمقها، ودلالاتها الفلسفية، وإلى أي مدى هي تُشير إلى مضامين أخرى غير المنظورة للمستمعين العاديين. بل إنّ آخرين ذهبوا في الإشارة إلى الظلال السياسية الكثيفة في غالب قصائد الدوش، بالرغم من أنّه هو نفسه كان يرد بسخريةٍ، على أسئلة الفضوليين عن الرموز والإشارات السياسية في قصائده.

في ذكراه، يستحق الدوش أنْ يتذكّر السودانيون إلى أنّ الانتماء إلى أية فكرةٍ يستدعي إيمانًا وأمانةً قبل كل شيء

في ذكراه، يستحق الدوش أنْ يتذكّر السودانيون إلى أنّ الانتماء إلى أية فكرةٍ، والنفاذ إلى أية فكرة وخيال جديدين، يستدعي إيمانًا وأمانةً قبل كل شيء، وهو أبرز سمةٍ في تجربة الدوش. فقد كان أمينًا لفكرته، وخياله، فأنتج مسرحًا وشعرًا مفارقًا للعادي في وقته، وما يزال إلى الآن. عاش بفلسفةٍ تخصه في المسرح والشعر والحياة، حتى فارقت روحه جسدها.

اقرأ/ي أيضًا

إعلان حالة الطوارئ الفنية.. وميثاق لحماية الفن والفنانين

تيريزا نيانكول مثيانغ.. أيقونة الغناء الثوري في جنوب السودان