تعتبر الفنانة الراحلة، تيريزا نيانكول مثيانغ، والمعروفة باسم نيانكول مثيانغ دوت، واحدةً من الأصوات الرائدة في مجال الأغنية الحديثة في جنوب السودان، حيث انصرفت في جميع أغنياتها للتغني للثورة والمقاومة والتحرر، والمطالبة بالمساواة واحترام حقوق الإنسان، لتصبح بذلك أيقونة الغناء الثوري في جنوب السودان.
غيب الموت مثيانغ في (24) أيلول/سبتمبر 2012 بعد حياة كاملة من الغناء والنضال
بدأت تيريزا تجربتها الفنية بتسجيل بعض الأغنيات العاطفية على مستوى الإذاعة السودانية خلال فترة توقيع اتفاقية أديس أبابا للسلام في العام 1972، حيث ظهرت بأغنية (فيو أشيي طوونق) والتي أدتها بملازمة فرقة الإذاعة القومية، وبعدها لمع نجمها كفنانةٍ صاعدةٍ تركز في أغنياتها على إيصال الرسائل ذات المضامين السياسية و الاجتماعية، فهي كانت تؤمن بأن الفن وسيلةٌ فاعلةٌ في عملية البناء والتغيير.
اقرأ/ي أيضًا: غوردون كونغ دوث.. الفنان ذو الموسيقى البصيرة
اشتهرت تيريزا نيانكول، المنحدرة من مجموعة "دينكا نقوك" المستقرة في منطقة أبيي، خلال مسيرتها الفنية بتأليف وأداء الأغنيات الداعمة لكفاح الجنوبيين ضد الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في السودان. وكانت ترى بأن الفكاك من أسر السلطة المركزية عبر الاستقلال، سيمثل الحل الناجع لكافة الأزمات التي يعاني منها الجنوبيون على وجه الخصوص، وبقية سكان المناطق المهمشة الأخرى في السودان على وجه العموم.
وأغنياتها لا تخلو من امتداح نضالات قادة حركات التحرر الوطني في إفريقيا، وتحديدًا نيلسون مانديلا، والذي كان بالنسبة لها رمزًا لنضال الأفارقة ضد الظلم والاضطهاد، مثلما كانت ترى في الدكتور جون قرنق، تجسيدًا لتجربة مانديلا النضالية، وقد شهد لها قرنق بإسهاماتها في دعم حرب التحرير عبر أغنياتها التي كانت تلهب الحماس الثوري في قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان.
وكان قرنق يقول بأن ما قدمته "نيانكول" للثورة يضاهي ما يمكن أن تقدمه كتيبة كاملة، وهي تعبر عن ذلك بصورةٍ واضحةٍ في إحدى أغنياتها التي تقول فيها بلغة الدينكا:
لقد وهبنا الرب.. جون قرنق
ليناضل من أجل أرضنا.. وينتزع حقوقنا
دعونا لا نتعب.. دعونا لا نكل
سيزيد الرب القوة.. سيزيد القدير القوة
(ريـيل أبي أشيك جواك.. ريـيل أبي مضول جواك)
بالنسبة لمارتن ودة ميان، الشاعر والمسرحي الجنوب-سوداني، فإن نيانكول مثيانغ، تعتبر أيقونة للنضال وموحدة لكيان الشعب الجنوبي ضد الطغيان والاستبداد الذي مارسته عليه الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في الدولة السودانية.
يقول ميان في شهادته عن تجربة نيانكول مثيانغ لـ"الترا سودان": "بالتطرق للراحلة نيانكول مثيانغ، نجدها من اللائي برزن في الساحة الفنية بأعمال مميزةٍ وخالدة، في خليطٍ إبداعيٍ بين الأغاني الوطنية والاجتماعية والعاطفية، وهي أعمالٌ فنيةٌ مصحوبةٌ بإيقاعٍ موسيقيٍ متفردٍ عن صنواتها من المغنيات، بالإضافة لحنجرتها الذهبية الجميلة، فقد كانت أعمالها ذات أثرٍ هامٍ جدًا على المجتمع الجنوب-سوداني المشهود له بالتنوع العرقي والثقافي، ومع ذلك فقد تعلقت قلوب وآذان الكثيرين بفنها بدرجة كبيرة، كما ساهمت أعمالها في توحيد وجدان وكيان الشعب الجنوبي أثناء فترات النضال الطويلة ضد الطغيان والاستبداد من قبل الحكام المتعاقبين على السلطة في الدولة السودانية. "نيانكول" عملة نادرة وفريدة في عصرها، و لن يجود الزمان بمثلها في القريب العاجل".
في تسعينات القرن المنصرم، بعد سنواتٍ قليلةٍ من استيلاء نظام الإنقاذ الإسلاموي المتطرف على مقاليد السلطة في السودان عبر انقلابٍ عسكري، ازدادت حالة التضييق والحصار على الفنانين والمبدعين السودانيين الذين كانت السلطة ترى أنهم يشكلون خطرًا كبيرًا عليها، فقرر عددٌ كبيرٌ منهم مغادرة السودان، والبحث عن أوطانٍ بديلة، وكانت نيانكول مثيانغ، واحدةً من المبدعين السودانيين الذين غادروا لكندا، وهناك أنتجت المزيد من الأغاني التي تساند نضال الجنوبيين، حيث أنتجت أشهر ألبوماتها، (دوت كو باي) والتي تعني "فلننقذ الوطن"، وهو الألبوم الذي تغنت فيه عن المعاناة التي عايشوها خلال فترة الحرب الأهلية الأخيرة، حيث تطالبهم فيها بالصبر ومواصلة الكفاح من أجل المستقبل الأفضل.
يقول مديت أشامراب، وهو مغنٍ من جنوب السودان، أن تيريزا نيانكول مثيانغ، تعتبر من أفضل المغنيات ومؤلفات الأغاني على مستوى جنوب السودان: "فهي كانت تغني دومًا عن قضايا حقوق الإنسان، حيث تنادي في إحدى أغنياتها بضرورة وقف العنف ضد النساء، ومساواتهن مع الرجال. إنها أسطورة بالنسبة لنا في جنوب السودان، فنيانكول مثيانغ ليست مجرد فنانة؛ إنما هي مناضلة من أجل الحرية، كانت تستخدم الموسيقى كوسيلة لتعليم الجنوبيين في القضايا السياسية، والمسائل الثقافية منذ ستينات القرن المنصرم. لقد ألهمت آلاف الجنوبيين، سنفتقدها كثيرًا".
كانت تيريزا نيانكول، تؤمن بأهمية وحدة وتماسك الجنوبيين كشعبٍ واحدٍ في جميع الأحوال، وكانت تناشدهم بضرورة ترك الخلافات والعمل من أجل بناء المستقبل المشترك، ولكنها في غمرة ذلك كله لم تنس وطنها الصغير ومسقط رأسها أبيي، وظلت تطرح العديد من الأسئلة على قادة الحركة الشعبية وجنوب السودان عن مصير المنطقة، خاصةً في ألبومها الأخير (أبيي دانق وي كادا؟) والتي تعني (كيف تخلفت قضية أبيي؟) والتي تقول في إحدى مقاطعها:
أيها الجنوبيون.. كيف تخلفت أبيي؟؟
ستكون أبيي مصيبة لكم في المستقبل
إن ما تهمله اليوم هو ما سيضرك غدًا
حين تذبح ذاك الثور..
الرمح الذي يشحذه صاحبه
قطعه يكون مؤلمٌ للغاية..
اقرأ/ي أيضًا: "فيكتور كيري واني".. ذاكرة الصحافة الوطنية في جنوب السودان وموسوعتها الحية
يقول الفنان المسرحي، أيمن جاستن لـ"الترا سودان": "كان من الطبيعي أن يبرز صوتٌ فنيٌ يعبر عن الإنسان الجنوبي أثناء ثورة أبناء الجنوب ضد الظلم في سبعينات القرن المنصرم، فقد ساهمت الأيقونة تيريزا نيانكول في التعبير عن صوت المرأة، وناضلت بكلماتٍ بسيطة وقيمة بلغة الدينكا، معبرةً عما في داخل الإنسان المهمش والمضطهد. كما اعتمدت السلم الخماسي الذي يطرب له السودان شمالًا وجنوبًا. الأيقونة تيريزا نيانكول عبقرية وذكية وبليغة حين تغني للثورة بطريقة ممزوجة بالعاطفة والحنان".
أيمن جاستن: نيانكول مثيانغ مدرسةٌ قائمةٌ بذاتها، حيث استطاعت أن تغرس روح النضال وسط جيلها
ويعتبر جاستن، الفنانة الراحلة نيانكول مثيانغ، مدرسةً قائمةً بذاتها، حيث استطاعت أن تغرس روح النضال وسط جيلها، بمصاحبتها عباقرة الفن حينذاك، من أمثال الملحن والموسيقار، سبت بنداس، و الأستاذ كاليستو واكو، مؤسس فرقة لوانقا جاز، والفنان أروب نيوك، لتترك بذلك إرثًا فنيًا عظيمًا للأجيال القادمة".
اقرأ/ي أيضًا
أيبو كُردم.. مغني بلوز الصحارى السودانية
محلل اقتصادي يرسم صورة قاتمة للاقتصاد ويدعو للتفاوض مع المنظومة الدفاعية