20-فبراير-2022

(جامعة الخرطوم)

فوجئنا كغيرنا من أبناء الشعب السوداني بتغريدة لوزير المالية وقائد حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، كتب فيها: "خالص التهنئة لطلاب شرق السودان بالعاصمة المثلثة بمناسبة وضع حجر الأساس لمسكن يكفيهم عناء البحث عن مأوى، سيتم تمويل المشروع بأموال المسؤولية المجتمعية التي يتم تخصيصها لمناطق إنتاج المعادن تحت إشراف وزارتي المالية و المعادن".

لا غضاضة في اهتمام المسؤولين بالدولة بشأن المواطنين وخاصة الشريحة الطلابية، ولكن المؤسف حقًا أن يأتي احتفاء وزير المالية بإنشاء سكن طلابي يعد الأول من نوعه في تقسيم الطلاب على الأساس المناطقي والجهوي، ولم يسبق طوال السنوات الماضية في تاريخ السودان أن أنشئ سكن طلابي حكومي مخصص لمنطقة أو جهة أو قبيلة بعينها.

يمثل السكن الطلابي بوابة التعارف والتمازج والترابط الذي يقوي اللحمة الوطنية والتواصل بين أبناء الدفعة أو المرحلة التعليمية المحددة

قديمًا كنا نسمع بالسكن الطلابي وكيف يعيش فيه أبناء السودان من شتى المناطق وفي كل المراحل التعليمية، ويمثل بوابة التعارف والتمازج والترابط الذي يقوي اللحمة الوطنية والتواصل بين أبناء الدفعة أو المرحلة التعليمية المحددة. وقد كان يبدأ عند كل المراحل الأولية والمتوسطة، ولكن بعد التوسع الكبير في المدارس وتوزيعها في ربوع الوطن وبالقرب من المواطنين؛ قلَّت الداخليات والسكن الطلابي، بل انعدمت في عدد كبير من المدارس، لتصبح الجامعات هي الوحيدة التي ظلت تحافظ على هذا النوع من التلاحم، ليتم فيها توزيع الطلاب دون وضع اعتبار لخلفياتهم الإثنية ولا المناطقية ولا الدينية، ليتشكل مزيج بين أبناء الشعب الواحد يشكل أنموذجًا للتعايش المشترك.

اقرأ/ي أيضًا: العود الأبدي.. السودان بين ديسمبر ومؤتمر الخريجين

من المؤسف حقًا أن تنحدر رؤية وزير المالية إلى هذا المستوى ليستن سنة جديدة سنشهد معها تكتلات جديدة في الأوساط الطلابية وكل منهم يطالب بتميزه بسكن خاص بأبناء منطقته التي ينتمي إليها، وما أكثرها تلك العصبيات المتجذرة في نفوس البعض. مثل هذا الأمر حتمًا سيعيدنا للاصطفاف الضيق مرة أخرى وربما تمثل بؤرة جديدة لصراع جهوي يعلو فيه صوت القبيلة والمنطقة على منطق التعايش والتمازج.

دول العالم  كالولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، تعمل بكل ما لديها من أجل زيادة  التنوع وإدارته للاستفادة من الاختلاف فيه لأنها تعلم بمدى القوة التي يحققها.

مثل هذه العقلية التي يمثلها وزير المالية جبريل إبراهيم تعمل على هدم الدولة وتشعل النعرات مرة أخرى بعد أن هزمتها الثورة السودانية المجيدة،  ففي ميدان الاعتصام بالقيادة العامة عقب سقوط النظام البائد؛ تلاقى كل أبناء السودان في مساحة ميدان محدودة كل منهم يحتضن الآخر بحب لا يهتم بلونه أو شكله أو دينه، فتسامى الجميع من أجل الوطن. بل إن بعض المعتصمين أكدوا بأن ميدان الاعتصام أعاد تعريفهم بمكونات الشعب السوداني، وأزال عنهم مفاهيم خاطئة رسخت في أذهانهم لعقود.

في التاسع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر 2018م أعلنت حكومة المخلوع عمر البشير القبض على خلية في حي الدروشاب بمدينة بحري تتبع لحركة جيش تحرير السودان بقيادة عبدالواحد محمد نور، ليتضح فيما بعد بأنها مجرد تهم ملفقة في مواجهة طلاب عزل، ليهتف المتظاهرون في أول موكب بــ"يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور". في إشارة لرفض التمييز والاستهداف بناءً على اللون أو الجهة.

لا يعقل أن نعود مرة أخرى بعد ثورة ديسمبر التي حطمت كل القيود وأعادت لحمة المجتمع من جديد لتسويق فكرة المناطقية والجهوية التي كان ينتهجها النظام البائد لزرع البغضاء على نسق سياسة فرق تسد التي تهدف لزرع التشاكس وتفكيك المجتمع الكبير إلى فئات صغيرة متنازعة، حتى يسهل التحكم فيها من خلال خلق الصراعات التي تشغل بالهم لإطالة أمد الحكم.

اقرأ/ي أيضًا: اعتصام رويال كير.. الخطوة الأولى في التنظيم

لم يعد النظر إلى الوطن من تلك النافذة الضيقة التي ينظر بها وزير المالية جبريل وأمثاله، فهؤلاء ما يزالون في تيه النظام القديم وعقليته التي تدثرت تحت أقدام الثوار لبناء "وطن حدادي مدادي" يسع الجميع لا تفضيل فيه لأحد على آخر إلا بالكفاءة والصدق والأمانة.

إعلان وزير المالية عن سكن يؤسس على نهج فرق تسد يجب أن يرفض ابتداءً من أبناء شرق السودان أنفسهم

لو كان جبريل إبراهيم أعلن عن إنشاء سكن جديد للطلاب دون تحديد فئة معينة لتقطنه لكان حقًا الاحتفاء به لتخفيف المعاناة التي تدمي القلوب من هول مأساتها ومكابدة آلامها، لكن إعلانه عن سكن يؤسس على نهج فرق تسد يجب أن يرفض ابتداءً من أبناء شرق السودان أنفسهم، لأنه يقود للفرقة والشتات والعزلة، فلم يعد هناك مجال لتسويق الأفكار الخاطئة حتى تزداد كلفة وأدها، ففي نهايات حقبة الإنقاذ بدأت في محاربة تأسيس الروابط الطلابية في الجامعات على أساس قبلي بعد أن نقلت الصراعات القبلية إلى سوح التعليم وتضاءلت معها الروابط العلمية لتتسيد الروابط القبلية حتى ساحات النشاط الطلابي وأماكن احتساء الشاي والقهوة.

السيد جبريل إبراهيم أخطأ خطأ كبيرًا يستوجب معه المحاسبة، فمثل هذا الأمر يجب ألا يسمح به ولا يتم سنه للأخرين حتى لا تحول المساكن الجامعية لمسميات قبلية لتصبح الداخليات حكرًا على قبيلة دون غيرها. ومع نهج جبريل لا نستبعد تسمية الداخليات بأسماء القبائل لتهزم فكرة القومية والسودان الذي يسع الجميع.

اقرأ/ي أيضًا

استقالة حمدوك والعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر

موانئ السودان والمعادلة السياسية لترويكا الانتقال