لم يكن الناس في جنوب السودان يتوقعون في يوم من الأيام أن يعود الجدل حول مياه جنوب السودان ومشروع قناة جونقلي للسطح مجددًا بعد أن قابله الجنوبيون في العام 1983 بموجة احتجاجات عارمة، تظاهر فيها الآلاف من طلاب المدارس في جوبا وواو وملكال ضد حفر قناة جونقلي، والتي كانت واحدة من الأسباب التي قادت لاندلاع الحرب الأهلية الثانية بين الشمال والجنوب، بعد أن تم استهدافها في أولى العمليات التي قام بها متمردو الجيش الشعبي لتحرير السودان، بعد أشهر قليلة من تمرد حامية بور بجنوب السودان.
ذات المتمردين الذين سبق وأن اعترضوا على المشروع وقاموا بضرب آلياته، يعودون بعد مضي ثلاثة عقود وعقب وصولهم إلى السلطة في جنوب السودان، بإبرام اتفاقات يرى الشارع أنها تمت بسرية تامة
منبع الاستغراب الشعبي هو أن ذات المتمردين الذين سبق وأن اعترضوا على المشروع وقاموا بضرب آلياته، يعودون بعد مضي ثلاثة عقود وعقب وصولهم إلى السلطة في جنوب السودان، لإبرام اتفاقات يرى الشارع أنها تمت بسرية تامة وتكتم كبير لاستئناف العمل في حفر قناة جونقلي الواقعة بمنطقة السدود على مجرى النيل الأبيض في المناطق الممتدة من ولاية جونقلي إلى أعالي النيل. ومن المفارقات الكبيرة في الموضوع هو أن زعيم ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق دي مبيور، كان قد أعد أطروحته للدكتوراه من جامعة آيوا بالولايات المتحدة عن مياه جنوب السودان وتحديدًا عن الآثار الاجتماعية والاقتصادية لقناة جونقلي.
مصدر حالة الغضب الكبيرة التي انتظمت أوساط المثقفين والمهتمين بالإضافة للمواطنين العاديين، هو ظهور وزير الري والموارد المائية وهو يقوم بشرح مشروع استئناف حفر القناة للنائب الأول لرئيس الجمهورية وزعيم المعارضة المسلحة رياك مشار، وذلك في إحدى الاجتماعات المغلقة التي تهدف لتمرير المشروع الذي تقول الوثائق المسربة على أنه سيعود بفوائد كبيرة على جمهورية مصر العربية أكثر من جنوب السودان، دع عنك الآثار البيئية المترتبة عليه على المدى القريب. فقد كان الناس يتساءلون عن طبيعة المصالح التي تربط بين السلطات الحكومية في جوبا مع السلطات المصرية، مما يجعل جوبا تتنازل عن مياه جنوب السودان ومصالح شعبها في سبيل إرضاء الطموحات المصرية في السيطرة على مياه النيل لتحقيق أمنها المائي؛ هل هي صفقات أمنية أم سياسية؟ وكيف تتجرأ الحكومة على الدخول في مشروع بتلك الحساسية في وقت تعلم فيه جيدًا عدم قبول الرأي العام المحلي لاستئناف مشروع حفر قناة جونقلي؟
المسألة الأخرى هي أن التحفظات التي تسود الشارع الجنوبي حيال مشروع حفر قناة جونقلي جاءت بسبب عدم ضغط السلطات الحكومية في جنوب السودان في سبيل إعادة مراجعة اتفاقية مياه النيل بعد أن نال جنوب السودان استقلاله ككيان جديد في المحيطين الدولي والإقليمي في العام 2011، ولكن الحكومة بالنسبة للكثيرين قد خيبت توقعات الشارع الجنوبي في ضمان الحقوق المائية لجنوب السودان، إلى جانب لعب دور حيادي في مسالة الصراع الإقليمي في موضوع المياه وإنشاء سد النهضة الإثيوبي، فهناك ميل جنوبي للوقوف إلى جانب إثيوبيا باعتبار المساهمات التي قدمتها في دعم نضالات الجنوبيين خلال فترة الحرب الأهلية السودانية، في وقت كانت فيه السلطات المصرية تقف إلى جانب الحكومة السودانية وتدعم خططها الحربية بدافع الهوية والانتماء.
اتخذت الحكومة الصمت كملاذ وحيد في تعاملها مع ملف إعادة حفر قناة جونقلي بواسطة الحكومة المصرية
لقد اتخذت الحكومة الصمت كملاذ وحيد في تعاملها مع ملف مياه جنوب السودان وإعادة حفر قناة جونقلي بواسطة الحكومة المصرية، فهي لا تستطيع أن تبلغ الرأي العام الجنوبي بالأسباب التي دفعتها للقيام بذلك. لكن يبدو واضحًا أن المساندة السياسية والدبلوماسية واللوجستية التي حصلت عليها الحكومة من القاهرة خلال فترة الحرب الأخيرة بينها وأطراف المعارضة المسلحة، جعلتها تستجيب بصورة سرية لتنفيذ بعض المشروعات الاستراتيجية والحيوية بالنسبة للمصريين في جنوب السودان، وأولها وأهمها ملف مياه النيل وإعادة حفر قناة جونقلي وتنظيف الأنهر الفرعية لضمان تدفق أكبر قدر من الاحتياطات المائية إلى السد العالي. وهي تعلم أن أي تقارب مع الجانب المصري سيقابل بالرفض والاحتجاج، وربما قد يقود إلى حالة من الاضطراب السياسي والمطالبة بإسقاطها، وذلك لحساسية هذه القضية بالنسبة لمواطني جنوب السودان الذين ينظرون إلى أن تضحياتهم لا يجب أن تساوم بأي مصالح سياسية ضيقة للقادة السياسيين، خاصة تلك التي تضمن لهم البقاء في السلطة لأطول فترة ممكنة على حساب المواطن البسيط.
عليه، فإن الموقف الثابت للحكومة ظل هو إنكار علمها بجميع تلك المشروعات المصرية الجديدة والتي من بينها إعادة حفر قناة جونقلي وتنظيف مجاري الأنهار الفرعية في بحر الغزال وأعالي النيل، علمًا بأن تلك المشروعات بدأت بتوفير البدائل المتمثلة في إنشاء محطات لتوليد الكهرباء الحرارية في مناطق جونقلي وبحر الغزال حتى لا تفكر جوبا في إنشاء خزانات للتوليد المائي، بالإضافة لدعم مشروعات الحفائر وحفر الآبار الجوفية ليعتمد عليها الرعاة والمزارعين في مقابل عدم استهلاك مياه الأمطار والأنهار التي سيتم توجيهها لصالح مصر، وقد كان الناس وما زالوا يتساءلون عن جدوى تلك المشروعات المصرية، والهدف من قيامها في الفترة التي أعقبت استقلال جنوب السودان؟
الحكومة ستحاول أن تتملص عن جميع تلك المشروعات المصرية، لكنها تخشى في الوقت نفسه ردة فعل الجانب المصري
المرجح هو أن الحكومة ستحاول أن تتملص عن جميع تلك المشروعات المصرية، لكنها تخشى في الوقت نفسه ردة فعل الجانب المصري والتي يمكن أن تنتهي بوقف التعاون السياسي والدبلوماسي، في مواجهة المجتمع الدولي الذي يحاول أن يفرض عزلة كبيرة على الحكومة التي هي في أشد الحاجة لأي شكل من أشكال التضامن المعنوي، ولو كان على حساب المصالح الاستراتيجية لشعبها.