قبل ثلاثة أعوام، وصبيحة الثالث من حزيران/ يونيو عام 2019، هاجمت قوة مشتركة من الجيش والشرطة وقوات الدعم السريع المعتصمين في مُحيط القيادة العامة للجيش وعملت على فض الاعتصام في الخرطوم وولايات السودان باستخدام الرصاص الحي، ومختلف صنوف الأسلحة والعصي والهراوات.
رغمًا عن الالتزام الدستوري، إلا أن اللجنة برئاسة المحامي المعروف نبيل أديب عجزت عن تقديم دفوعاتها القانونية خلال الفترة الزمنية المُقررة
وقد نقلت التقارير وقتها أن نحو (128) قتلوا في مجزرة فض الاعتصام، بينما تم تسجيل نحو (357) إصابة وتعرض (65) متظاهرًا لممارسة عنف جنسي، بجانب حالات اغتصاب موثقة. وقد وجهت أصابع الاتهام لقادة في المجلس العسكري الانتقالي، الذي كان يتولى السلطة، لكنه أرجع الأمر إلى خطأ غير مقصود، موضحًا أن القوات "انحرفت عن مهمتها".
الجريمة التي لن يمحوها صراع الذاكرة ضد النسيان، والانتهاكات التي تبعتها في حق الرافضين للتسلط العسكري في الخرطوم والولايات، شكلت أولى أولويات المكون المدني على طاولة التفاوض مع المجلس العسكري، وقد نتج عن ذلك أن اعتبرت التحقيق المُستقل في هذه المجزرة من أبرز مهام الفترة الانتقالية للحكم الديمقراطي.
ووفقًا للوثيقة الدستورية التي نصت في المادة (16) من مهام الفترة الانتقالية على تشكيل لجنة تحقيق وطنية مستقلة، لإجراء تحقيق شفاف ودقيق في الانتهاكات التي جرت في الثالث من حزيران/يونيو 2019، والأحداث والوقائع التي انتهكت حقوق وكرامة المواطنين مدنيين وعسكريين، على أن يشمل أمر تشكيلها كافة الضمانات من استقلاليتها وتمتعها بكافة صلاحيات التحقيق وتحديد المدى الزمني لأعمالها.
ورغمًا عن الالتزام الدستوري، إلا أن اللجنة التي شكلها رئيس وزراء الحكومة الانتقالية وقتها عبدالله حمدوك، برئاسة المحامي المعروف نبيل أديب عجزت عن تقديم دفوعاتها القانونية خلال الفترة الزمنية المُقررة وهي فترة ثلاثة أشهر.
وبررت اللجنة مرارًا لذلك العجز إذ نقلت للأنباء أن أولى تحدياتها تمثل في ميزانية تسيير عمل اللجنة، وبضغط جماهيري وإعلامي اجتازت اللجنة هذا التحدي، وأعلنت بعد ذلك عن اتكمال تحقيقاتها الأولية واستماعها لآلاف الشهود في القضية، قبل أن يتعطل عملها مرة أخرى، منذ عام ونصف، بعد أن طلبت دعمًا فنيًا فيما يتعلق بالتحقق من الصور والمواد المرئية بواسطة فريق جنائي مُختص ومستقل.
وقد طالبت اللجنة رئاسة الوزراء رسميًا بطلب الدعم من الاتحاد الأفريقي، إلا أن مكتب الاتحاد الافريقي اعتذر، وفي شباط/ فبراير من العام الماضي، أفاد بأن الدعم المطلوب غير متوفر في الوقت الحالي. وعاد أديب ليؤكد لوسائل الإعلام أن لجنته أودعت منضدة السيد رئيس الوزراء عدة مقترحات لجهات يمكن أن تنجز الفحص المطلوب.
قبل أيام؛ أشار رئيس لجنة التحقيق نبيل أديب، في مقابلة مع قناة الجزيرة، إلى أن اللجنة وصلت إلى "مرحلة حاسمة في التحقيق، وأنهم بصدد فحص الأدلة المادية والجنائية التي تم جمعها"، مشيرًا إلى أن غياب الحكومة الدستورية يُعرقل عمل اللجنة وأن عملية الفحص متوقفة أو متعثرة بسبب غياب رئيس وزراء سوداني، وانتظار التصاريح الجديدة التي تهم سير العملية النهائية للتحقيق.
وزاد بأن اللجنة باتت تفتقد الدعم المالي واللوجستي، مضيفًا أنها باتت لا تملك حتى أموالًا لدفع فاتورة الكهرباء.
وقد توالت تصريحات أديب، الذي استبعد الاستقالة، بعد إعلان القائد العام للجيش الانقلاب على السلطة الدستورية، لتؤكد جميعها على حقيقة واحدة، وهي أن الحكومة الحالية تُعاني انعدام الإرادة فيما يتعلق بتحقيق العدالة، بينما يسعى بعض أطرافها إلى تعطيل آليات انفاذها، بحثًا عن الحماية من المحاسبة.
رُبما قادت تحديات الواقع السياسي لانتقال السودان، القوى المدنية لأن تتناسى حقيقة أساسية مرتبطة بتوصيف هذه المجزرة، وهي أن بعض كبار الضباط في اللجنة الأمنية التابعة نظام الرئيس المخلوع ادّعوا الانحياز للثورة السودانية، في وقت متأخر من ميلادها، وأصبحوا واقعيًا في قيادة المجلس العسكري الذي اشترط التفاوض لتسليم السُلطة للمدنيين، وأدار عملية فض الاعتصام وعمليات العنف التي لحقته لإسكات الأصوات الرافضة للجريمة الشنيعة.
هذه المجموعة هي نفسها التي قطعت الطريق أمام الفترة الانتقالية بعد قرارات 25 تشرين الأول/ أكتوبر، وهي ذات المجموعة التي تُدير البلاد اليوم وتمسك بزمام أمورها. وتمتد هذه الحقيقة لتشير إلى أن الآلاف من الجنود والضباط المنفذين لهذه الجرائم، مازالوا أحرارًا يتبعون للقوات النظامية، يأتمرون بأمرها ويمثلون صوتها السياسي.
لكن التطورات السياسية في السودان مؤخرًا، يجب أن تُعيد التحقيق في هذه المجزرة إلى مُقدمة الأجندة الوطنية، ذلك أن نتائج هذا التحقيق هي التي تقود للتدقيق في حقيقة ومعطيات الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وتمثل التقييم الحقيقي للانحياز الذي يروج له بعض القادة العسكريين، الذين تملّصوا من نظام "البشير"، وادعوا وقوفهم إلى جانب الثوار في طريق تحقيق الانتقال الديمقراطي.
والسبب الآخر هو أن عقيدة العُنف المستخدمة في فض الاعتصام تكررت بعد ذلك مرارًا بواسطة ذات القوات خلال الفترة الانتقالية، وأثناء محاولات العسكر إخماد نيران الرفض الشعبي لانقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر.
ما من وضع طبيعي يضع القاتل والمقتول في سلة واحدة، وليس من المنطقي أن يُدار التحقيق حول جريمة بالغة الحساسية بهذا البُطء، السؤال الذي يجاوب عليه هذا التحقيق هو ذات التساؤل الذي تطرحه القوى المدنية على طاولة المكون العسكري اليوم، ما هي حقيقة هذه الشراكة؟ وكيف يُترجم الانحياز إلى برنامج عمل؟
العدالة لا تنفصل عن سياق الشأن السياسي العام، وقد بات إحراز أي تقدم في هذا الملف مرهونًا بأدوار القوى المدنية الديمقراطية، التي تناهض انقلاب العسكر، وإرادتها في استعادة العملية السياسية المدنية أولاً ثم رسم خارطة طريق واضحة لتحقيق العدالة بالعمل على تحقيق متطلباتها.
ومن ضمن المتطلبات دفع عجلة هذا التحقيق للأمام عبر توفير السند السياسي والجماهيري والضمانات الدستورية لتوفير الدعم اللوجستي والفني المطلوب لإكمال هذا النوع من الاستقصاء المتقدم، ومراقبة أداء لجنة التحقيق وحماية أفرادها ومنح أصحاب المصلحة الحقيقيين، متمثلين في أسر الشهداء والأجسام القانونية والتقنية الثورية، صفة "مراقب" لعمليات التحقيق من أجل ضمان صحة النتائج وضمان نزاهة هذا العمل، بجانب ضرورة التصدي لمحاولات التكتم على هذا الملف وتجريم تعطيله.
إن عجز القوى الوطنية الديمقراطية عن تقديم أطروحات سياسية تُعالج هذا الملف وتخرجه من سلة المهملات إلى رحاب أولويات إنجازات حكومة الانتقال؛ يعني بالضرورة الفشل في تحقيق سيادة القانون، وبالتالي فهي تُكرس، عن قصد أو دون، لمزيد من الإفلات من العقاب.
ختامًا؛ المثل المتداول وسط أهل القانون يقول إن الإبطاء في تحقيق العدالة يعد إنكارًا للعدالة نفسها. ونرد على الأستاذ نبيل أديب الذي أشار في آخر تصريحاته: "أن عمل اللجنة لا يُقاس بالزمن بل بالنتائج النهائية التي سيتمخض عنها التحقيق"، بالقول إن الطبيعي في أي تحقيق مُستقل أن تتمخض عنه نتائج نزيهة وفقًا للإطار المهني والأخلاقي الذي يحيط بطبيعة عملكم.
ما من وضع طبيعي يضع القاتل والمقتول في سلة واحدة، وليس من المنطقي أن يُدار التحقيق حول جريمة بالغة الحساسية بهذا البُطء
ويظل الوقت مؤشرًا حيويًا لجودة هذا العمل، وإن أرادت لجنة التحقيق فترات زمنية طويلة فلماذا لم تُطالب بذلك رسميًا وتخطر جمهورها بمبررات هذا الإطار الزمني؟ أما أن تقطع اللجنة وعودًا زمنية متكررة ولا تلتزم بها، وتستمر في محاولات إقناع الناس "بالصبر المفتوح" في مقابل "جودة النتائج"، لا يمثل إلا "قلة حيلة" لا يستوعبها المنطق البسيط خصوصًا وأن عُمر اللجنة يقارب اليوم ثلاثة أعوام، وقد وعدت الناس بالتحقيق خلال ثلاثة أشهر! وأنها متعطلة اليوم بفعل إرادة البعض طي ملف العدالة بينما تمنح الدولة المتهمين الحصانة والحرية.