18-يناير-2021

محمود محمد طه (الجزيرة نت)

".. وحد الزنا للمحصن الرجم بالحجارة على رأسه حتى يتهشم‏.‏‏. وللبكر الجلد مائة جلدة.. وحد السرقة اختلاسًا، وخفية، قطع اليد اليمنى.. أما حد الحرابة، وهي الخروج على الحاكم، وقطع الطريق، وإخافة السابلة في الطريق العام، خارج المدينة، وقتل النفوس، وأخذ الأموال، فهو درجات: فإن أخاف الطريق، وقتل، ولم يأخذ المال، يقتل‏.‏‏. وإن أخاف الطريق، وقتل، وأخذ المال، يصلب‏، وإن أخاف الطريق، ولم يقتل، ولكنه أخذ المال، يقطع من خلاف -اليد اليمنى والرجل اليسرى-‏ وإن أخاف الطريق، ولم يقتل، ولم يأخذ المال، ينفى من أرض وطنه، لمدة يقررها القانون‏.‏ ‏ولقد تبدو، لأول وهلة، هذه العقوبات قاسية، وعنيفة، ولكنها ليست كذلك، في حقيقة الأمر، وإنما هي حكيمة، كل الحكمة".

يستند فكر محمود محمد طه بالأساس على التجديد، إلا أنه ومنذ وفاته انحصر مجهود أتباعه في التوثيق ومحاولات تخليد صورته

ربما لا يعلم العديد من الناس أن النص الذي ورد أعلاه هو لشهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، والذي أعدم احتكامًا إلى حد الردة في مثل هذا اليوم قبل (36) عامًا على يد الديكتاتور المخلوع جعفر محمد نميري، ومضرب للغرابة ثانٍ في النص، الذي يدعو لتطبيق الحدود بحذافيرها، هو أن محمود أورده في ما عرف بـ"الديباجة" أواخر أيامه في أكتوبر من العام 1984 التي كتبها قبيل أشهر من محاكمته بتهمة الردة وتنفيذ حكم الإعدام عليه.

اقرأ/ي أيضًا: لجنة الأطباء تؤكد ارتفاع أعداد ضحايا الجنينة وتطالب الحكومة بتحمل مسؤولياتها

شكل مشهد موت محمود محمد طه هالة من القداسة التي منعت الدخول إلى فكره وتفحصه فحصًا دقيقًا، أو استكشاف مواضع القصور فيه، كما أرست شخصيته القوية والجريئة ملامح الطائفة لدى أتباعه، فبالرغم من أن فكر محمود محمد طه يستند في الأساس على التجديد، إلا أنه ومنذ وفاته انحسر مجهود أتباعه في التوثيق ومحاولات تخليد صورة الرجل الذي ضحى بنفسه من أجل حرية الفكر، مظهرين محاسن الميت دونًا عن أي شيءٍ آخر، عملًا بالمقولة أذكروا محاسن موتاكم.

ولا ينكر أحد أن محمود سيظل أحد أبرز الملامح التاريخية للفكر والسياسة السودانيين، عبر أكثر من (35) كتابًا وكتيبًا، إضافة إلى العشرات من المحاضرات والندوات الفكرية التي كانت تتناول معظم المشكل السوداني، إضافة إلى مجهوده الأساسي في قضية الدين والتدين، طارحًا فكرًا جديد كليًا على الناس فيما يخص الدين، ما جعل شخصًا كالمؤلف والمترجم الفلسطيني سامي الديب -مسيحي غير تعبدي على حسب وصفه لنفسه- يعده أهم مجددٍ في التاريخ الإسلامي، ليقوم بتأليف كتاب عن محمود يبدي فيه كثيرًا من الإعجاب بأفكار الأستاذ، مع بعض التحفظات والاختلافات الطفيفة.

إضافة إلى كل ذلك، فمحمود الذي أعدم بعد السبعين، رسخ في عقل العامة أنه مدعٍ للنبوة، وهو إن لم يدعيها قولًا إلا أنه أدعاها فعلًا وعملًا، مانحة له كاريزما خاصة، فالنبوة بالنسبة للمستشرق الألماني ثيودور نولدكه، تعرف من مظاهرها، ففي تساؤله عن نبوءة نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، يتساءل نولدكه في كتابه تاريخ القرآن، قائلًا: "هل كان محمد نبيًا حقًا، ويجيب أنه كان كذلك، وآية نبوءته هي إن محمدًا حمل طويلًا في وحدته ما تسلمه من الغرباء، وجعله يتفاعل وتفكيره، ثم أعاد صياغته بحسب فكره، حتى أجبره أخيرًا الصوت الداخلي الحازم، أن يبرز لبني قومه رغم الخطر والسخرية.. ما يجعلنا نتعرف فيه على حماس الأنبياء الذي يتصاعد حتى التشدد"*.

هنا نجد الخيط الواصل ما بين صورة الأنبياء وحياة محمود، فمحمود لطالما ردد الحديث: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا.. طوبى للغرباء". في محاولة شرح غرابة فكرته التي قامت على قلب معيار الناسخ والمنسوخ في القرآن بطريقة جعلت الناسخ منسوخًا والعكس، والتي توصل لها في خلواته واعتكافاته العديدة ثم خرج بها مبشرًا للناس، ثم ختمت حياته بمشهد يجاري مشهد صلب المسيح، حينما نصح أتباعه المحكومين معه بالتوبة، فيما اختار هو أن يضحي بجسده ويراهن على قوة أفكاره في أن تتحقق، وهنا يمكن لنا أن نطرح سؤال، هل كان محمود ليبلغ ما بلغه اليوم لولا إعدامه؟ وهل كان يعلم أن إعدامه سيمنح أفكاره هذا البريق الذي لم يخب حتى اليوم؟

رحّب أتباع الشهيد بالتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا، مدعين أن محمود قدّم نبوءة بحتمية التطبيع العربي مع إسرائيل

استطاع محمود طوال فترة نشاطه الفكري، أن يستفيد من معارف عديدة، فلم يقصر نشاطه في مجال الفكر الديني، وإنما قام بعملية توليفية لعدد من المعارف، فهو استفاد في الماركسية ومن منجزاتها حيث طرح الاشتراكية منتقدًا للعالم الرأسمالي، لكنه، وبطريقة غريبة، يقول في محاضرته "الماركسية في الميزان" لأتباعه، إن ما جاء من خير وفائدة على الناس في كتاب رأس المال فهو من عند الله، وأما ما كان ضررًا فهو من عند ماركس! هكذا بكل مباشرة يصدقها أتباع لم يكن لكتاب رأس المال أن يبلغهم أو يسمعوا عنه إلا عبر محمود، إضافة إلى أن لغة محمود الخطابية، لغة عرفانية، تتسم بأوجه متعددة لمعانٍ مختلفة، ما يجعلها حمالة للأوجه، بعيدة عن المعنى المباشر للكلام، مما يفتح الباب واسعًا لتأويلاتٍ لا نهائية.

أما أتباعه الذين تحولوا لطائفة مصغرة، تضرب على نفسها سياجًا من الخصوصية، فلم تستطع منذ إعدامه أن تضيف أو تنتقد ما خلّفه محمود من فكر، حتى أنها سارت عليه وقع الحافر على الحافر، فحتى اليوم، ورغم تغير الزمان والمكان، رحّب الجمهوريون السودانيون بالتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي مؤخرًا، مدعين أن محمود قدّم نبوءة بحتمية التطبيع العربي مع إسرائيل، بالرغم من أن محمود عندما دعا للمفاوضات مع إسرائيل وكان ذلك في العام 1967 بعد الهزيمة الثالثة للجيوش العربية، كما أن حل الدولتين الذي يؤيده كان ينضوي على إقامة دولة إسرائيل في حدود ما قبل العام 1967، وهو ما لم تلتزم به دولة الاحتلال في اتفاقيات إبراهام الأخيرة، والتي ساندها الجمهوريون في السودان، فقط لأنهم يعتقدون أنه طابقت رؤية محمود التي مضت عليها عقود.

تحولت أفكار الشهيد من بعده إلى تقليد ثقافي روحي، تصلح كعزاء وخلاص نفسي وذاتي، أكثر منها فكرة فاعلة ومتجادلة مع متغيرات الحياة

حفر محمود اسمه في الذاكرة السياسية والفكرية عبر نشاطه وفاعليته منقطعة النظير، وجرأته في نقد ما رسخ في عقول الناس بالضرورة، لكنه لم يكن زعيمًا لحزب كما جرت عادة الزعماء الحزبيين، فمحمود أشبه بالداعية والمجدد الديني، بكل ما يفترضه الوصف من سلطة روحية، ما جعل اسم محمود هو الاسم الأبرز والأوحد في تاريخ الحزب، وحتى الذين أتوا من بعده من كتاب ومفكرين جمهوريين، لم يتعدوا الشروح الإفهامية، أو الدفاعات التبريرية، حاكمين على الفكرة الجمهورية بالتضعضع وتحولها إلى تقليد ثقافي روحي، تصلح كعزاء وخلاص نفسي وذاتي، أكثر منها فكرة فاعلة ومتجادلة مع متغيرات الحياة ومستجداتها.

اقرأ/ي أيضًا

حزب الأمة يتهم قيادات بالحرية والتغيير بالسعي للاستوزار وارتداء "البدل"

أساتذة جامعة الخرطوم يختارون نقابتهم عبر التصويت الإلكتروني

*ثيودور نولدكة، تاريخ القرآن، دار نشر جورج ألمز، 2000، ص 4.