عندما وقع غابرييل غارسيا ماركيز في غرام "بيت الجميلات النائمات" للياباني ياسوناري كاواباتا حكى لنا بعدها مرارًا قصة الجميلة التي نامت بجانبه طوال زمن رحلة الطائرة التي ما إن حطت وباشر هو في إجراءات المطار حتى قدم نفسه لموظف الجوازات المسئول على أنه كاتب ياباني!
لو لم يكن غابرييل هو نفسه الذي نعرفه فسيكون غابرييل هو ذلك الصحفي المجهول الذي لن نعرفه إلا بين تلافيف الذاكرة
وبعد حوالي ثلاثين عامًا قدم لنا روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات" التي يفتتحها باقتباس رُشيمي من رواية كاواباتا "بيت الجميلات النائمات": "ما كان يجب عليك أن تفعل شيئًا منافيًا للذوق، حذرت العجوز إيغوشي سيدة الخان. ما كان يجب عليك أن تضع أصبعك في فم المرأة النائمة أو تفعل شيئًا مشابهًا".
اقرأ/ي أيضًا: الجاز.. موسيقى الكفاح والحرية
العمل كله كان بإلهام من رواية الياباني وليست مصادفة كونه آخر أعمال ماركيز الذي وبعد عقود من الكتابة للجمهور قرر أن يكتب لنفسه. فالذاكرة الحزينة للغانيات هي محاولة تخيّل ماركيز لنفسه لو لم يكن كل هذا الذي كان قد كان-بمعنى لو لم يكن غابرييل هو نفسه الذي نعرفه فسيكون غابرييل هو ذلك الصحفي المجهول الذي لن نعرفه إلا بين تلافيف الذاكرة- فبطل الغانيات هو المغمور الذي لم ينل حظه من الشهرة والذي بلغ التسعين على منزل خاوٍ إلا من الذكريات. وقتها كان ماركيز يرتدي عدسات السابعة والسبعين لتأتي "ذاكرة غانياتي الحزينات" كقراءة مغايرة للأقدار أكثر من كونها ختامًا لسنين العزف الساحر.
فعدم إشارة ماركيز إلى اسم الصحفي هو إشارة باتجاه ذاته، وأن الاسم ما هو إلا قالب مستسهل تنصّب فيه الذات لتتشكل كيفما تشاء، لكنها تبقى ضمن حدوده الصارمة غير المرئية.
فما شخصية الصحفي في ذاكرة غانياتي الحزينات إلا رغبة ماركيز في أن يقول مازحًا أو جادًا، لن نستطيع الجزم: أنظروا هذا هو أنا لو لم أكن أنا أنا!
اقرأ/ي أيضًا: النجاة من الغابة النرويجية
قبل أن يأتي تأكيده في أكثر من مناسبة على لسان الصحفي بأنه يقوم بكتابة اعترافاته ويتحدث عن نفسه كما يتمناها دون أن ينسى وصف الفردوس الذي ضاع بسبب أنه هو "هو "
البيت الواسع والمضيء بأقواس من الأصيص وأرضية الموزاييك الشطرنجي الفلورنسي، الأبواب الزجاجية الأربعة، وشرفة تطل على كل من الحديقة العامة والكاتدرائية وتمثال كولومبوس. كل ذلك والشمس تتنقل من نافذة إلى أخرى طوال اليوم بينما يجرجر جسده والأرجوحة ليعلقهما في أقرب ظل قبل أن يغط في قيلولة غارقة في نعاس وعرق إجهاد مقطوعة طويلة لشوبان.
لا إمكانية- أعتقد- في متناول التحقيق لحرية كان في الإمكان تحققها رغم الأمل اللا محدود الذي يطرحه ماركيز، وأن الحياة يمكن أن تكون ملآى بالمتع وما تزال عذراء حتى لرجل في التسعين "بداية حياة جديدة يكون فيها معظم البشر قد ماتوا" مع إضاءة لرماد الشيخوخة بعذرية طفلة نائمة، سطعت ربما منذ ذلك اليوم الذي قرأ فيه ماركيز رواية الياباني كاواباتا.
اقرأ/ي أيضًا: خارج حدود السينما.. داخل حدود السياسة
ليبقى انتظار الموت وخصوصًا عندما يكون انتظارًا يليق أكثر بالحياة حتى يصبح غاية في ذاته وتكريسًا للاحتفاء بهذه الحياة المشرفة على النهاية. كأن الإنسان لا يعمل طوال حياته إلا على تهيئة نفسه للموت من بعد تهيئة السرير المعلق في الظل والمقطوعات الكلاسيكية. لتأتي في النهاية صورة الكولومبي المتمناة والاخيرة: في بيت كولونيالي فائح بالحر والعزلة بثقل سنوات تسعين بلا زوجة أو أبناء أو مسئوليات عمل. برزخ ملائم تمامًا لتسعيني عازب فر مرة من قفص الزوجية إلى فضاءات نسوة لم يبادلهن الحب ولم يضممنه يومًا إلا بما بين أفخاذهن. إنه حتى يعترف بحزن -ربما-عندما يقول "لم أذهب أبدًا إلى فراش أية امرأة إلا ودفعت لها مالًا".
إصرار غابرييل على الشبه برواية الياباني كان كرنفالًا احتفائيًا لا ومضة ساحرة متصلة بالإبداع الماركيزي. كان كإبداء إعجاب لا متناهي وغرام يدفع العاشق إلى التهور وارتكاب الحماقات. لص يغامر بإلقاء القبض عليه بتنزيهنا داخل بيت هو نفسه تسلق حائطه متلصصًا. إنه معجب للدرجة التي يريد لفت انتباهنا إلى هذا العمل المثير لعجبه. والقراءة بتجاهل كل ذلك الإعجاب تصل بنا إلى التفكير أن القدٌر نفسه كانت له قصة في يوم واحد بينما لم تكن بقية الايام - إلى يومنا هذا - سوى محاولات يائسة منا للحكي.
فحادثة موت أحد النزلاء مثلًا رغم التغييرات التي طرأت عليها ولفت الانتباه الذي سلطه ماركيز لصالح السياسي إلا أنه يكتبها كما في القصة الملهِمة، لنفس السبب الذي يجعله يكتب تفاصيل أخرى لأنها جميعا من أعمدة المنزل التي لا يمكن للسقف المثير للدهشة الاستغناء عنها حتى لو في "ذاكرة". إنها ككل مصادر الإعجاب التي تغذى منها المعجب اللاتيني، تمامًا كما تغذى من قبل بحكيه عن الخلط الذي يحدث بين كثير من القراء في أنه -أي ماركيز - كاتب ياباني آخر والذي يعتقد أنه ما كان له أن يحدث إلا بسبب ما يكنه ماركيز نفسه للأدب الياباني، ولا يظهر إلا في هذا الخلط المتوهم.
كيف ونحن نعلم أن ماركيز الشغوف بالحوارات المتداخلة وإرغام القارئ على التركيز في من يقول ماذا. هو نفسه مليء بخبث الحكي الذي يكفي ليقف بينة وهذا الوهم. هذا إن وضعنا جانبًا الفروقات التي بين شعبين بذواكر وأحلام مختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: "أفلام في الشارع".. مبادرة تحكي قصة جيل الثورة
اللاتينيون يفيضون بالأسى ومرارات الماضي، لا يحكون القصة إلا كما يبكونها موسوسين بثكل كل ما كان يومًا ما موجودًا، ومهووسين باستحضار الماضي ووضعه على طاولة الكتابة ومن ثم إعمال التصحيح في بدنه بمباضع الغلو في إيضاح جماليات التفاصيل.
أما كاواباتا فيكتب كأمطار تصعد من الأرض باتجاه السماء. إنه يتحدى العادي والمتوقع والواقعي، بينما سحر ماركيز في حكيه يجبرك ليس على الوقوع في حب القصة و لكن الوقوع في حب القاص أيضًا.
ذاكرة غانياتي الحزينات هي تمجيد لعمل أحبه عميد الواقعية السحرية أكثر مما نظن، لدرجة جعلته يجرب تخيّيل نفسه في رواية كاواباتا
ذاكرة غانياتي الحزينات هي رواية تمجيد لعمل أحبه عميد الواقعية السحرية أكثر مما نظن، لدرجة جعلته يجرب تخيّيل نفسه في رواية كاواباتا كمستوى أعلى من شعائر الايمان، فلا طقس يفوق تقديس القصة أكثر من حشر أنفسنا فيها، لا حشرها فينا.
كل هذا لا يمكننا بالطبع القطع به، على الأقل ليس بنفس الدقة التي نقول بها أن للكولومبي حس دعابة قاتل، فعندما وجه "آلن جوفرو" إلى ماركيز دعوة الاجتماع بكتاب يابانيين كان من بينهم كاواباتا نفسه أجاب الكولومبي بأنه سيسر لهذا اللقاء بدون أدنى شك وأنه في طريقه اليهم شرط ألا ينتحروا!
وقد حدث اللقاء كما كان مقدرًا له. مثلما كان مقدرًا لاحقًا لكاواباتا أن يكتفى من انتظار ما، محققًا دعابة ماركيز لينتهي إلى الانتحار باقرًا بطنه بسيف!
اقرأ/ي أيضًا
معرض الخرطوم للكتاب.. قلة في الإصدارات الجديدة وضعف في الإقبال
الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل.. معرض يحتفي بإسهامات المرأة السودانية