07-أكتوبر-2019

من أعمال أحمد جابر (Humble Gallery)

يبدو أن المشاركة الباهرة للكنداكة السودانية؛ وهي الملكة في الحضارة النوبية القديمة، وانخراطها القوي في أحداث ومنعرجات ثورة كانون الأول/ ديسمبر 2018، بكل الفئات العمرية للمرأة السودانية وعلى اختلاف ومستوياتها التعليمية وخلفياتها الاجتماعية والثقافية، والتي كانت الملمح الأبرز في ثورة السودانيين ضد الاستبداد، ما زالت شديدة التأثير والحضور. ومثلما شدت تلك المشاركة المتفردة انتباه العالم وجذبت أنظاره وأثارت إعجابه، إلا أنها داخليًا لم تكن حدثًا جديدًا، وكما كانت مفردة "كنداكة" جديدة أيضًا على أسماع  العالم من حولنا، كان تاريخ السودان القديم يسرد المرويات عن الكنداكات ومآثرهن العظيمة في تاريخ وادي النيل، تلك المأثر التي تم استعادتها بشكل رومانسي إبان الحراك الثوري الذي أطاح بحكم المستبد عمر البشير، في استلهام وطني مبدع لوصف كتلة النساء الثائرات اللائي شاركن بفعالية منقطعة النظير في إنهاء أعتى أنواع الحكم السلطوي على مر التاريخ الحديث للسودان، والذي ظل قابضًا على الكرسي طيلة 30 عامًا كانت المرأة السودانية خلالها هي أول وأكبر ضحاياه.

جاءت جميع الأعمال بعنوانين تمجد المرأة السودانية عبر التاريخ وتشير إلى عطائها المستمر الذي توجته بمساهمتها البارزة في ثورة كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٩

تلك المشاركة الملفتة والحاسمة في مسار الثورة السودانية، كانت قد ألهمت العديد من الفنانين التشكيليين في حينها ليصيغوا من خلالها أعمالًا حاولت أن تخلد دور المرأة السودانية وتلمس جوانب مشاركتها في الثورة، وتكشف عن جماليات تلك المشاركة، جسدتها الجداريات وألوان الثورة السودانية، لكن على ما يبدو فإن حالة الإلهام الجمالي تلك لم تنقض بعد.

اللؤلؤ وحقول اللوتس

في القارة العجوز على الضفة الأخرى من المتوسط، وتحديدًا في مدينة لندن كانت "الكنداكة" حاضرة فنيًا في معرض سوداني خاص يحتضن لمدة ثلاثة أشهر تبدأ في الرابع من تشرين أول/أكتوبر الجاري وحتى كانون الثاني/يناير من العام 2020، أعمال الفنان التشكيلي السوداني أحمد جابر. المعرض بعنوان (الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل) تحت إشراف مؤسسة The Humble Gallery، يعرض 23 لوحة تشكيلية يقول الفنان أحمد جابر "لالترا سودان" أنها أنجزت في الفترة من 2017 إلى 2019.

جاءت جميعها بعنوانين تمجد المرأة السودانية عبر التاريخ وتشير إلى عطائها المستمر الذي توجته بمساهمتها البارزة في ثورة كانون الأول/ ديسمبر ٢٠١٩، وربما إمعانًا في الاحتفاء كانت أكبر لوحات المعرض بمقاس (٨٤×٥٤) تحمل عنوان "ثورة".

افتتح المعرض الأكاديمي والمؤلف البريطاني "بول داش" المهتم بقضايا الفن والتعليم ومناهضة العنصرية، والذي قال في كلمته عن الافتتاحية: "أن معرض أحمد جابر، "الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل"، هو مجموعة أعمال فنية أنجزت بعناية وحساسية، وهي منبثقة من تراث متجذر في تقاليد أفريقيا القديمة، بما فيها طقوس الإسلام الثقافية. كل هذا مع تذوق مكثف لطرائق الفن والتصميم المعاصر. إن أعمال الباحث والأكاديمي أحمد جابر، البصرية والأدبية تعكس عمق معرفته بتاريخ وحضارات السودان وجيرانه التي تعود لحضارة "كوش" العظيمة.

يقول الفنان أحمد جابر الحاصل على شهادة الدكتوراه في الفنون "لالترا سودان" أن فكرة المعرض هي الاحتفاء بالمرأة كرمز للعطاء والأمل. ويضيف أن هذا المعرض كما ورد في عنوانه يحتفي بالمرأة عمومًا من خلال حضور المرأة السودانية عبر التاريخ ويستلهم تاريخ كنداكات الأمس و "عازات" اليوم (في إشارة إلى عزة زوجة المناضل السوداني علي عبد اللطيف، التي مجدت في أغنية الفنان الراحل خليل فرح الوطنية عزة في هواك) اللائي مهرن أسماءهن بأحرف من دم ونور وقلن للعالم أنهن ورثة كنداكات الأمس أو قل عازات الأمس وكنداكات اليوم".

يتابع الفنان والأستاذ الجامعي: "معرض الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل. يصادف مناسبة هي شهر تاريخ السود في بريطانيا" ويضيف جابر "أنا درست التربية الفنية في كلية غولد سميث بجامعة لندن، على يد بول داش الذي افتتح معرضي وألقى كلمة فيه، وهو فنان بريطاني ومؤلف مهتم بالتعدد الثقافي ومناهضة العنصرية في تعليم الفن. كما كان سميث مشرفي للحصول على الشهادة فوق الجامعية في التربية الفنية وعلى ماجستير الفنون بكلية الذي حصلت عليه كذلك من كلية غولد سميث بجامعة لندن.

اقرأ/ي أيضًا: الفيلم السوداني "حديث عن الأشجار" يمنح العرب جائزة مهرجان برلين

يعمل التشكيلي أحمد جابر بوسائط متعددة وعلى أحجام مختلفة من الخامات والخلفيات، غير متقيد بأسلوب معين، يقول: "يبدو أن خلفيتي كمصمم ورسام إيضاحي، أثرت على أعمالي لدرجة ما، وكذلك اهتمامي بالكتابة الإبداعية وحبي الشعر والموسيقى، وأسلوب خط الثلث العربي. قلت ربما هذا يساهم في خلق عمل قريب للناس، وهو أحد أهم أولوياتي كفنان وتربوي، أنا أومن بأن الفن ليس فقط وسيلة تعبير عن الذات والآخر، وإنما هو كذلك وسيلة للترفيه والإلهام والتعلّم والتغيير".

تأثير أمومي

في كلمته بمناسبة افتتاح المعرض قال التشكيلي أحمد جابر "أن الخطوط، الأشكال، تدرّج الألوان، الأنماط والملامس جميعها غاية الأهمية للتعامل معها من قبل معظم الفنانين البصريين. بالنسبة لي أهمية هذه العناصر البصرية، وتحديدًا، الألوان، تكون حاضرة دائمًا حتى عندما أتعاطى مع عمل بالأسود والأبيض. هذا الحضور التام للألوان (عندما أتعاطى مع عمل بالأسود والأبيض، درجات رمادية أو درجات أي لون آخر) يزدهر عند أي ضربة فرشاة أو جرة خط. إنها مثل قراءة (ما بين السطور) في قطعة إبداع كتابي غني.

حوى معرض "الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل"، أعمالًا تناسب الاحتفاء بتاريخ النساء السودانيات القديمات (الملكات النوبيات أمثال: شاناكدازيتي، أمانيشاختو وأمانيريناس) وكذلك المرأة السودانية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. وجاء إهداؤه المعرض إلى والدته، "زينب إلياس" (توفيت في 26 آذار/مارس 1967 وعمرها 35 سنة)، احتفاءً بها وبكل امرأة، واعترافًا بفضلها كونها ملهمته الأولى في أعماله الفنية التي تمجد المرأة.

ألهمت المشاركة الفاعلة للمرأة  العديد من الفنانين التشكيليين  ليصيغوا من خلالها أعمالًا حاولت أن تخلد دور المرأة السودانية وتلمس جوانب مشاركتها في الثورة

في باحة العرض

 قدمت أثناء الافتتاح رقصات سودانية تستوحي تاريخ الكنداكات، وقدمتها الراقصة السودانية "فانتا رورو" التي لم ينس داش الإشارة لها في كلمة الافتتاح. يتضمن المعرض إلى جانب اللوحات الفنية فعاليات أخرى قادمة، حيث ستقام ورشة فنية عن الحروفية والخط العربي في أعمال أحمد جابر الفنية، تتخللها قراءة في بعض أعماله الفنية ذات الصلة بالحوار الثقافي (من خلال نص بالإنجليزية يحمل عنوان "سبيكرز كورنر"(Speakers Corner) يدور حول الجزء الأخير من روايته- دوائر الوعي واللاوعي). يقدمه الفنان والتربوي البريطاني إيان روبرتسون الرئيس السابق لقسم الفنون بجامعة لندن ميتروبوليتان.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

خارج حدود السينما.. داخل حدود السياسة

صورة المرأة السودانيّة في رسومات آلاء ساتر