طوال ثلاثة عقود من حكم النظام البائد كان السودان يعيش عزلة قاتلة، الشوارع صامتة يسكنها الخوف والترقب، والنشاط الثقافي متوقف وتحول إلى فعاليات هزيلة ومحصورة بين النخب، داخل قاعات مغلقة بعيداً عن أعين الجمهور. أغلقت دور السينما وصار الاهتمام بها ضعيفًا، يتابعها الناس داخل البيوت من شاشات التلفاز وهي في الغالب عروض لأفلام استهلاكية لا تقدم ذخيرة معرفية أو بصرية للمشاهد. ثم جاءت ثورة كانون/أول ديسمبر 2018 وحملت معها تغييرات كبيرة وآمالًا شبابية في تغيير الواقع وإصلاح ما أفسده حزب المؤتمر الوطني، بسياساته الظالمة، خصوصًا تجاه الثقافة والفنون والسينما، وكان لا بد أن يتحرك الشارع ويتفاعل مع المتغيرات الجديدة. وفي يوم 5 أيلول/سبتمبر أعلنت مجموعة من الشباب عن قيام مبادرة بعنوان "أفلام في الشارع " وعرضت فيلم "أضواء المدينة" لتشارلي شابلن.
مبادرة "أفلام في الشارع" كانت بمثابة الحلم عندما تحققت الثورة، تم اختيار الشارع العام كمكان للعرض لارتباطه بثورة ديسمبر المجيدة والتي بفضلها تمتع السودانيين بالحريات
تقول الكاتبة والناشطة الفنية والعضو المؤسس في المبادرة لمياء نبيل "مبادرة "أفلام في الشارع" كانت بمثابة الحلم عندما تحققت الثورة، تم اختيار الشارع العام كمكان للعرض لارتباطه بثورة ديسمبر المجيدة والتي بفضلها تمتع السودانيين بالحريات" كان الشارع هو المكان الأول الذي تعرض للهجوم والمصادرة عند وقوع انقلاب 1989 وتم تحديد حركته بسلسلة من القوانين والأفكار المتزمتة التي حملتها "الحركة الإسلامية" في مشروعها وأعادت من خلالها تعريف الحياة الاجتماعية في السودان وفقًا لها، فجاءت المبادرة لإحياء شوارع الخرطوم وبقية مدن السودان كنوع من الإثراء الثقافي ومحاولة جادة للاستمرار في التواجد، فيه الشارع هو الفضاء العام الأول الذي انتزعته الجماهير ومنه انطلقت مواكبها وفيه ارتقى شهداؤها. تضيف لميا : "لن نعود أدراجنا من الشارع أبداً، وسنثبت حقنا وفيه ونطالب بالمزيد".
اقرأ/ي أيضًا: الفيلم السوداني "حديث عن الأشجار" يمنح العرب جائزة مهرجان برلين
وجدت فكرة لمياء الترحيب من شرائح كبيرة من المثقفين والمنتجين وصناع الأفلام والمسرح والدراما، انضم إلى المبادرة في بدايات التكوين الشاب المسرحي جسور أبو القاسم الذي تحدث إلى "الترا سودان" قائلًا: "الشارع يحتاج أن يتنفس ونحن نحتاج برامج ترفيه، نحتاج لقضاء ساعات بعيدًا عن صراعات الساسة، ومن خلال هذه البرامج التي نعدها يمكننا مساعد الآخرين على ممارسة الحياة المدنية والتفكير في فوائدها وإثراء الشأن العام بالأنشطة الهادفة.
انقطعت السينما عن السودان لفترة طويلة، وعودتها تشكل حدثًا بارزًا في الحياة الثقافية السودانية، لذلك عندما بدأت مبادرة "أفلام في الشارع" تجاوب معها المواطنون وكان الحضور كثيفًا ومتنوعًا بل وتم تقديم مقترحات لأصحاب المبادرة بضرورة نقلها إلى جميع أحياء الخرطوم. كانت هناك مقترحات بضرورة إعادة عرض أفلام سودانية مرتبطة بالذاكرة الجمعية لإحياء ما تم هدمه خلال فترة حكم "الكيزان". لأن المبادرة حديثة النشأة وبدأت في مدينة الخرطوم، يتم حالياً التجهيز لعروض في مدن سودانية أخرى مثل "بورتسودان" و"الجنينة" و"الكاملين".
لكن هل هدف المبادرة هو مجرد عرض أفلام في الساحات؟ تؤكد الكاتبة لمياء نبيل أن الهدف هو إعادة جدولة السينما في الروتين اليومي لحياة السودانيين، بتوفير عروض مجانية في الميادين يشارك في اختيارها سكان المنطقة المخصصة للعرض. أما المرأة فكانت مشاركتها بالانخراط في المبادرة والحضور لافتة جدًا، وكثير من العروض جرى التنسيق لها في أحياء الخرطوم كانت بواسطة نساء المنطقة.
وجدت المبادرة تفاعلًا كبيرًا من قطاعات المجتمع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا دليل على تحرك البلاد في العهد الجديد ناحية الفنون والوعد بانتعاش دور السينما
وجدت المبادرة تفاعلًا كبيرًا من قطاعات المجتمع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا دليل على تحرك البلاد في العهد الجديد ناحية الفنون والوعد بانتعاش دور السينما، وتأكيد أن ما تم في الماضي من حربٍ على السينما كان نتاج توجه سياسي مختل، لم يجد قبولًا شعبيًا، بل وجد معارضة قوية، لكنه استمر بسبب بطش النظام البائد. تعود لمياء لتؤكد: "نشهد الآن انتعاشًا للسينما وصناعتها وإنتاج أفلام سودانية بجودة عالية، تناقش مواضيع مهمة وتكسر التابوهات القديمة في الشارع السوداني، وما زلنا ننتظر أفلامًا كثيرة عن الثورة وتأثيرها في اليومي السوداني، وعن أحلام جيلنا وطموحات الشباب، وأتمنى أن نستمر بنشر البهجة بالألوان والأضواء والموسيقى وننير شوارع الخرطوم من بعد ظلمته".
اقرأ/ي أيضًا:
خارج حدود السينما.. داخل حدود السياسة
الفيل الأسود.. أوان الحنين للسينما السودانية