30-أكتوبر-2019

من المعرض (الغد)

ثلاثون ألف جنيه سوداني تعادل (100) دينار كويتي فقط. هذه المفارقة المؤلمة لم تصدم مرتادي الأسواق الخفية للعملات الأجنبية بالعاصمة السودانية الخرطوم، هي مفارقة تجسد حالة انهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية التي خلفها العهد البائد ما تزال قائمة، وهو ما واجه مرتادي معرض الخرطوم الدولي للكتاب وهم يقلبون بين أكفهم الكتب المتراصة بعناية في المعرض. أحد مرتادي المعرض تناول كتابًا يحتوي مجموعة من الفتاوى والمواد الفقهية الإسلامية، تعرضه دار نشر كويتية بمعرض الخرطوم للكتاب الذي افتتحه وزير الإعلام السوداني فيصل محمد صالح منتصف تشرين الأول/أكتوبر الجاري، خرج القارئ دون أن يشتري ما يطلبه بعد أن حالت الأسعار بينه وبين مراده من الكتب.

نسبة المؤلفات الجديدة التي لا تتجاوز الـ(15%) من جملة الكتب المعروضة وهي دون الطموح

غياب الأدباء والشعراء

وكان وزير الإعلام قد أكد غياب الأدباء والشعراء في معرض الخرطوم في دورته الـ(15) هذا العام، بسبب عدم الاستقرار السياسي في أعقاب الإطاحة بالنظام الحاكم منذ نيسان/أبريل الماضي. ويشارك في هذه الدورة نحو (200) دار نشر بـ(15%) من الإصدارات الجديدة من مجمل الكتب المعروضة هذا العام والبالغة (200) ألف كتاب وفق ما ذكر أحد منظمي المعرض لـ"الترا سودان" مشيرًا إلى أن نسبة المؤلفات الجديدة التي لا تتجاوز الـ(15%) هي نسبة دون الطموح لمعرض دولي مناط به جذب دور النشر العالمية.

اقرأ/ي أيضًا: صورة المرأة السودانيّة في رسومات آلاء ساتر

ودرجت الحكومة السودانية سنويًا على تنظيم معرض الخرطوم للدولي للكتاب بمشاركة دور النشر العربية، بينما تغيب دور النشر الإفريقية والعالمية لعوامل كثيرة تتعلق بعدم وجود حوافز للعرض في السودان وتدني القوة الشرائية. ولعبت العزلة الدولية التي عانى منها السودان بسبب النظام السابق، دورًا في نفور دور النشر من المعرض.

الاقتصاد يخنق الثقافة

ويختلف معرض الخرطوم للكتاب هذه المرة في كونه يأتي في أعقاب الثورة الشعبية التي أطاحت بسلطة كانت تصادر العديد من الكتب، وهي في طريقها إلى معرض الخرطوم. ورغم تخفيف القيود الأمنية التي كانت تحدد مواصفات ومعايير الكتب المعروضة، إلا أن دور النشر المشاركة في المعرض تشكو من تدني قيمة العملة السودانية مقارنة مع الدولار الأمريكي وانعكاس هذه الأزمة على إقبال القراء على شراء الكتب.

يقول محمود وهو مندوب لدار نشر مصرية تشارك بمعرض الخرطوم "المبيعات متدنية جدًا لأن الجنيه السوداني هوى إلى أدنى مستوى له"، ويضيف قائلًا "خمسة جنيهات سودانية تساوي واحد جنيه مصري"، هذا الأمر انعكس بشكل واضح على شراء الكتب، لدي كتاب يباع في مصر بـ(40) جنيها مصريًا ويباع هنا في معرض الخرطوم بـ(250) جنيه سوداني".

اقرأ/ي أيضًا: "أفلام في الشارع".. مبادرة تحكي قصة جيل الثورة

نظرة سريعة على صالات العرض تجعلك تدرك أن غالبية زوار معرض الخرطوم للكتاب الذي يقع في ضاحية بري شرقي العاصمة السودانية، هم من الطبقة الوسطى التي تعمل في سلك الوظائف الحكومية أو الخاصة، ومن المنشغلين بالشأن العام وحقل الثقافة وطلاب الجامعات، بالتالي تتأثر قدرتهم الشرائية بالأسعار العالية، فيضطرون إلى خفض سقف رغباتهم في اقتناء الكتب. هذا علاوة على أن المعرض نفسه لم يتح الإصدارات الجديدة لأن المشاركة فيه غير محفزة لدور النشر، التي بدا أنها لا تحبذ المغامرة بتوسيع قائمة المعروضات، وتقديم كتب ومؤلفات جديدة قد تتأثر بالركود.

توجهات مختلفة في معرض الخرطوم 

يقول بلة الأمين (35 عامًا) لـ"الترا سودان" أنه لم يتمكن شراء كتاب "أطياف ماركس" لأن سعره بلغ (300) جنيه سوداني، وهو مبلغ مكلف واكتفى بشراء رواية لنجيب محفوظ بقيمة (60) جنيهًا.

واتسعت خيارات دور النشر العربية والسودانية في عرض كتب عن الأدب والفلسفة والفكر والعلوم الإنسانية والدين والعلمانية والدراسات السودانية، فيما سارعت التيارات السلفية التي تشارك في المعرض سنويًا بتوسع ملحوظ هذا العام، إلى عرض كتب شروح وتعليقات على متون من أصول التراث السلفي، جنبًا إلى جنب كتب صغيرة ومتوسطة الحجم بأغلفة ملونة تحتوي مواد فقهية إسلامية يطغى عليها المزاج السلفي المعاصر.

لعبت العزلة الدولية التي عانى منها السودان بسبب النظام السابق، دورًا في نفور دور النشر من المعرض

أيضًا يمكن ملاحظة حرص الطرق الصوفية على التواجد في معرض الخرطوم بإنشاء مراكز لبيع الكتب المعاصرة التي تحاول تقديم مقاربات عن التصوف والإسلام المعتدل، فيما يشبه سباق غير معلن لنشر الإسلام المعتدل، كما يلمح زعماء الطرق الصوفية في السودان.

يقول نور الدائم حسن (22 عامًا) وهو يعرض الكتب في ركن يتبع لـ"مسيد" طابت الشيخ عبد المحمود، وهو زعيم صوفي سوداني "الإقبال على الشراء جيد رغم الركود في اليومين الأولين، نحن نعرض كتبًا عن التصوف والإسلام المعتدل وهي تجذب المتصوفة، والكثير من السودانيين يميلون إلى التصوف".

حادثة اعتداء في جناح الحزب الجمهوري

رغم حالة الركود والتي لا تخطئها العين إلا أن معرض الحزب الجمهوري السوداني، (وهو حزب ديني ذو جذور صوفية أسسه  محمود محمد طه الذي أعدمه نظام الجنرال الأسبق جعفر نميري في كانون الثاني/يناير1985)، حظي معرض الإخوان الجمهوريون بإقبال الشباب، ويعزو بعض المراقبين حالة الاهتمام التي لاقاها ركن الجمهوريين في المعرض للدعاية المجانية التي وفرها له تعرضه للهجوم من قبل أحد السلفيين المتشددين، حيث هاجم رجل في العقد الخامس من العمر، بعد يومين من افتتاح المعرض الذي يبيع مؤلفات صاحب الفكر الجمهوري، وحطم محتويات الجناح ومزق صورة لمحمود محمد طه وضعت في متجر الكتب الذي يشرف عليه طارق حسن (42 عامًا) والذي أبدى استنكاره للحادثة وقال لـ"الترا سودان" ما حدث سلوك مرفوض فالفكر يواجه بالفكر والحوار والحجة لا بالعنف الذي يرفضه فكرنا الجمهوري.

بدا في المعرض حالة أشبه بسباق غير معلن على نشر الإسلام "المعتدل" على حد وصف بعض المشاركين في المعرض

وظلت صورة طه ممزقة كما تركها المتشدد الذي اقتيد إلى قسم الشرطة للتحقيق. يقول حسن "الإقبال على المعرض جيد حتى من قبل من يختلفون مع فكر الأستاذ (كما يسمي الجمهوريون زعيمهم الراحل) يشترون مؤلفاته عن الإسلام، وقد جاء رجال ملتحون بدا عليهم الانتماء إلى التيارات السلفية، اشتروا كتب محمود محمد طه ربما يريدون معرفة حقيقته، وهذا بالنسبة لنا أمر جيد، لأنه ليس بإمكانك أن تعرف الآخر دون معرفة أفكاره وأطروحاته".

 

اقرأ/ي أيضًا

السينما.. وجه من وجوه المقاومة

"احتفالية النهر".. معرض للتشكيلي صلاح المر في الدوحة