12-نوفمبر-2019

مغني الجاز السوداني وليم أندريا وفرقة بلو ستارز (فيسبوك)

موسيقى الحصاد

في القرن التاسع عشر كان العبيد الأفارقة في أمريكا يعملون في حقول القطن تحت ظروف إنسانية غاية في القسوة. لا وقت للتسلية، لا وقت للمرح، لا وقت سوى للاحتفال في مواسم الحصاد. يتجمع العبيد ويرقصون ويتغنون بألحان ذات جذور إفريقية وعلى إيقاع الطبول وما تعلموه من ترانيم الكنائس. من هنا نشأ نوع جديد من الفن، عرف لاحقًا باسم: موسيقى الجاز.

حقبة العشرينات هي العصر الذهبي لموسيقى الجاز وانتقلت لاحقًا إلى بقية بقاع الأرض. رتبط الجاز تاريخيًا بحركة كفاح الزنوج ونضالهم من أجل الحرية.

من السودان كان هناك "وليم أندريا" الذي أسس فرقة خاصة بموسيقى الجاز "بلوستارز" ولقب بغزال السبعينات الأسمر

مشاهير الجاز.. أو موسيقى الخلاص التي مست القلوب

منذ عشرينات القرن الماضي وإلى يومنا الحالي قدمت موسيقى الجاز للساحة الفنية عددًا مقدرًا من الفنانين الذين اشتهروا بمعزوفاتهم الفريدة وتعلقت قلوب الجماهير بهم وتحولوا لأيقونات فنية تنبض بالحياة والأمل في القلوب.

لويس أرمسترونغ عازف جاز اشتهر في بدايات القرن بالعزف على آلة الكلارينت في النوادي. كانت الموسيقى بالنسبة له قضية للكفاح ضد التمييز العنصري الذي عانى منه السود وتحدث في أكثر من مناسبة عن إزالة الفوارق بين السود والبيض حين يجتمعون تحت سماء الجاز. غنى أرمسترونغ للطبيعة والحب وأحزان الحياة ومن أغنياته "يا له من عالم رائع" و"لا أحد يعرف المتاعب التي رأيتها".

اقرأ/ي أيضًا: السينما.. وجه من وجوه المقاومة

في ذات الحقبة ظهر ديوك إلينغتون الذي طور موسيقى الجاز وأضاف إليها آلات جديدة. ظل هذا النوع من الموسيقى ملهمًا للسود في كفاحهم الطويل ضد العنصرية، ليعكس مدى جمال أن يحارب الإنسان الظلم بالفن.

ومن السودان كان هناك وليم أندريا الذي أسس فرقة خاصة بموسيقى الجاز "بلوستارز" ولقب بغزال السبعينات الأسمر. في ذلك الوقت كانت ليالي الخرطوم تشهد حفلات الجاز الدائمة بقيادة أندريا ومن أغنياته المعروفة "كفاية مزاح".

موسيقى الجاز لم تكن بعيدة عن بقية الفنون الأخرى وخاصة السينما التي كرمتها بأفلام خاصة مثل فيلم Bird، ويحكي قصة مغني جاز أسود البشرة يتعرض للتمييز والظلم، لكنه ظل يغني ويكافح المجتمع الأبيض إلى أن حقق النجاح بالسلاح الوحيد الذي يملكه: الفن.

All That Jazz هو فيلم استعراضي بامتياز ويعد أحد أيقونات السينما. فاز بأربع جوائز أوسكار من ضمن تسعة تشريحات.

أما الأدب فصور الفيسلوف الفرنسي جان بول سارتر بطل روايته الغثيان أنطوان روكنتان كشخص وحيد، يعاني الضجر النفسي ويبحث حول ماهية الوجود. ذات يوم يستمع البطل لألحان الجاز فيقول كمن اكتشف سرًا: وجدت خلاصي في الموسيقى.

اقرأ/ي أيضًا: معرض الخرطوم للكتاب.. قلة في الإصدارات الجديدة وضعف في الإقبال

فرقة جاز الديوم

بآلات حديثة وأغاني جاز قديمة وجدنا فرقة "جاز الديوم" تصدح بألحان عذبة في واحدة من البروفات. استمعنا إلى أغان إنجليزية قديمة وأخرى بالدارجة السودانية ولغة الهوسا، كلمات غريبة عن الأذن لكن إحساس الطرب تغلغل إلى جميع الحضور لأن القاسم المشترك بينها إيقاعات الجاز.

المدير العام للفرقة جمال دينق أخذنا في رحلة للماضي وبدايات تكوين الفرقة عام 1966 مع الراحل عمر عبده الذي تغنى بأغنية "كولينق كولينق" الشهيرة. وقصتها أن وزير الثقافة آنذاك طلب من الراحل تأليف أغنية لاستقبال الرئيس النيجيري الذي كان في زيارة للسودان، فكانت هذه التحفة الخالدة في الغناء السوداني. توقفت الفرقة عن العمل في العام 1983 لأن عددًا من أعضائها كانوا عائدين من رحلة من مدينة سنار فوقع لهم حادث مروري مؤسف توفي على أثره خمسة من الأعضاء. بعد الحادثة هاجر بعض العازفين إلى المنافي البعيدة. ثم واصلت الفرقة العمل إلى حدود العام 1999 الذي شهد هو الآخر مرحلة غياب عن الساحة لأسباب فنية. وفي العام 2017 عادت الفرقة لتنطلق من جديد.

يقول دينق لـ"الترا سودان" نمزج بين ألحان مختلفة، الأفريقي بالعربي، ولدينا أغان خاصة مثل "براي يا خلة" وسلسلة من 14 عملًا بعنوان "الملهمة" كتبت جميعها بيد المبدع الراحل عبدالرحمن الطويل تحت شجرة الألحان في الديوم.

يواصل دينق حديثه: هناك ما يقارب 18 فرقة جاز في السودان. مع ذلك لايوجد مقر لهذه الفرق لإننا تعرضنا لحرب خفية في عهد النظام القديم. وكانت آخر جمعية عمومية في نادي الفنون الشعبية عام 2017.

موقع موسيقى الجاز في السودان

"في البدء لم يعرف السودان موسيقى جاز بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كان أسلوبًا موسيقيًا معاصرًا أتى من خلال ممارسة أفراد من دفاع السودان إبان عهد الاستعمار لنوع يسمى بالتنوع الأوربي" هكذا بدأ الفنان صلاح براون حديثه ليكمل: هذه المجموعة عملت في الأندية الليلية مثل "سانت جيمس" "صالة غوردون" ولأن فرق الإنجليز كانت تكلف أموالًا طائلة تعلم أبناء الوطن هذا النوع من الموسيقى، أضافوا لها إيقاعات سودانية وأفريقية. من أشهر عازفي الجاز في تلك المرحلة الموسيقار محمد إسماعيل بادي ومقطوعاته هي: "همسة"، "مامبو نص الليل". أيضًا محمد مرجان الذي كان قائدًا لسلاح الموسيقى بعد السودنة، إضافة إلى عوض محمود والمقدم عبدالقادر عبدالرحمن من الشرطة. لاحقًا ظهر الفنان شرحبيل أحمد الذي قامت أغانيه على إيقاعات الروك آند رول والتويست وفرقة الديوم التي تخصصت في إيقاع التم تم. وبقية الفرق في منتصف القرن الماضي اعتمدت أسلوب الروك والتويست والشيك والصول والريقي لذلك لا توجد فرقة سودانية مارست العمل بأسلوب موسيقى الجاز بصورة خالصة.

اقرأ/ي أيضًا: النجاة من الغابة النرويجية

 

يضيف الفنان براون بأن العام 1983 كان نقطة تحول في موقع الجاز في السودان عندما سنت قوانين الشريعة الإسلامية، حيث أغلقت كثير من الفنادق أبوابها ومنعت الحفلات. أثرت هذه القوانين على الفرق، منهم من تحول إلى الغناء الوتري وآخرون انضموا للإذاعة وهاجر البعض الآخر.

الآن يتفاءل براون بثورة ديسمبر المجيدة ويقول أن فرق الجاز آن لها أن تتجمع في كيان جديد لتطوير الغناء السوداني والهوية الإيقاعية والاستفادة من الخبرات العالمية.

 

تجمع المهن الموسيقية..خطوات نحو الحرية

لم يكن الموسيقيون في عالم بعيد عن مجريات الثورة. في شهر كانون الأول/ديسمبر 2018 أنشأ الموسيقار الكبير يوسف الموصلي مجموعة ضمت قرابة 300 موسيقي بين فنان وملحن وعازف. وهي التي كونت في ذات الفترة تجمع الموسيقيين السودانيين بقيادة الفنان عبدالوهاب وردي. وتجمع الفنانون بقيادة صلاح عبدالعال مبروك. تعددت التجمعات في تلك الفترة لكن بجهود جبارة تم تكوين "تجمع المهن الموسيقية" وضم هذا الجسم اتحاد الموسيقى الحديثة والناي والطمبور والغناء الشعبي وفرق موسيقى الجاز. يؤكد الموصلي لـ"الترا سودان" أنهم في الطريق للانضمام إلى تجمع المهنيين السودانيين لتقديم تصورات حول مستقبل الفن السوداني.

يوسف الموصلي: كونّا تجمع المهن الموسيقية ونحن في طريقنا للانضمام لتجمع المهنيين السودانيين

تواجه الموسيقيين في السودان الكثير من التحديات يشرحها الموسيقار الموصلي قائلًا "أول العقبات هي قصور الفهم في أدمغة الساسة، خاصة من يتبوأ منصبًا فينسى إعجابه القديم وصداقته للفنان الذي كان ذات يوم رفيق دربه في الكفاح". قدم الموصلي منذ بداية ثورة ديسمبر 30 عملًا موسيقيًا يقول أنه سيظهر قريبًا للجمهور مقدار هذا الجهد.

 

اقرأ/ي أيضًا

في منتدى "جيل جديد" و"عديلة".. السياسات الثقافية وصناعة الثقافة ودور الدولة

إيمانويل كيمبي.. توحيد الجنوبيين بالغناء