18-سبتمبر-2023
تصميم يحوي عزت الماهري ومازن مصطفى وعبدالعزيز بركة ساكن

عزت الماهري ومازن مصطفى وعبدالعزيز بركة ساكن

"الخيالي هو الواقعي الأكيد"

محمود درويش

في الشهر الأول للحرب أثار مقطع فيديو متداول قدرًا كبيرًا من السخرية والدهشة وليدتا الصدمة، ولم يتصور أحد ممن شاهد المقطع أو تداوله ساخرا؛ أن يتحول محتواه الخفيف الساخر إلى فعل يومي معاش يتجاوز أداؤه شبه التمثيلي وحسه الخيالي – الفطري الواقع وينقل الجميع إلى مربع الرعب.

ما الخيال؟ ومن ينتجه؟ وكيف يتكون في بلاد مثل بلاد السودان؟

ما الخيال؟ ومن ينتجه؟ وكيف يتكون في بلاد مثل بلاد السودان؟ والحرب التي تدور الآن هل هي نتاج خيال – أدبي، سياسي، ثوري، جمعي جامع – قفز بأحداثه إلى واقع آخر لم يكن منظورًا للآخرين؟ أم أنها وليدة خيال عقيم تعامى عما يتزلزل تحت الأقدام منذ أمد مبشرًا بمآلات الحاضر.. أي الموت والفناء!

رواد الخيال

في هذه الكتابة "الخيالية" سأحاول محاورة الخيال "خيالنا" في عدة مستويات تقترن به وتعطيه المعنى أو تأخذ المعنى والمدلول عنه. وأول هذه المستويات سؤال تبادر إلى ذهني منذ بداية الحرب، وهو كيف كان حضور "رواد الخيال"؛ في هذه الحرب؟ وأعني برواد الخيال تلك الفئة التي تنتج الخيال وتفعله في مختبرات ذاكرتها الخاصة، ولاتساع هذه الرقعة رأيت أن أركز – بداية – على كُتّاب السرد، مبتكرو الأحداث المعقدة وخالقو الشخصيات المركبة في الروايات والقصص القصيرة وما جاورهما!

لكن، لنستعيد أولًا مقطع الفيديو المتداول في بداية الحرب. فالمشهد كان كالتالي: يظهر شخص "متلبس" بالزي العسكري، متسلقًا سور أحد المنازل ليلًا، لكنه يفاجأ بأهل المنزل في انتظاره، فيدير معهم حوارًا قصيرًا، يسألهم: "إنتو لسه قاعدين؟"، فيجيبون "نعم"، فيقول في صيغة تحذيرية مغلفة بالشفقة الكذوبة "لكن كدا ما خطر عليكم!". والجملة الأخيرة هذه كانت مكمن السخرية أو مقتلها، فهي التي انتشرت وتحولت إلى "ميمز" مكثفة التداول إلى أن أيقن الجميع أن هذا العسكري المتسلق كان جادًا وصادقًا في تحذيره "كدا خطر عليكم"، أو بمعنى آخر: "اتركوا منازلكم وأملاككم وانزحوا خيرٌ لكم"، وهو الأمر الذي لم يكن متخيلًا أو متصورًا لدى الكثيرين.. وإنْ في كوابيس الأحلام!

عن الخيال ورواده ومنتجيه أستحضر الآن قصة قصيرة مرعبة كتبها الروائي عبدالعزيز بركة ساكن خلال حقبة التسعينات، وكانت الحرب مشتعلة، أقسى الحروب –وقتها– وأطولها؛ حرب الجنوب. في نهاية هذه القصة وبعد تجربة فنتازية يتعرض جندي مسكين للموت متفجرًا بلغم بعد أن ظن –وظننا– أنه وصل أخيرًا إلى بر الأمان؛ أمام بوابة قيادته العسكرية، في صورة خيالية مبهرة تقارب ما يحدث الآن أمام بوابة سلاح المدرعات أو سلاح المهندسين أو غيرهما من القواعد العسكرية المحاصرة في الخرطوم "عاصمة الحرب".. القصة اسمها "حذاء ساخن"؛ حذاء يطأ لغمًا فيتطاير جسد مرتديه إلى أشلاء متناثرة.

لبركة ساكن أعمال أخرى قصصية وروائية غارقة خيالًا في الحروب والدماء، تنذر انفعالًا من حال الدمار الذي ينتظرنا. ولبركة أيضًا –بركة الواقعي– موقفه المباشر المصادم الذي أعلنه لحظة اندلاع هذه الحرب. والكاتب الواقعي منتج الخيال، بلا شك يرى في سطوع ذاكرته وظلام أقبيتها ما لا يراه الآخرون، قد تتفق معه أو تختلف لكنه من موقعه هذا "الواقعي – الخيالي"، أراك رؤياه المحذرة التي تغلب -ضمنًا– كفة على الأخرى. حذر بركة من اجتياح الجنجويد "الدعم السريع" للسودان بأجمعه وليس الخرطوم فقط، ودعا إلى مقاتلتهم وقتل طموحاتهم "الخيالية"! لكنه في الآن نفسه طالب بإيقاف الحرب! وبإدانة ومحاسبة كل المتورطين فيها سواء من الجيش أو الدعم السريع.

كيف كان حضور صانع الخيال هنا؟ هل أرعبه خياله -منتج "مسيح دارفور"- مما سيأتي؟ أم أن خياله منتج ما سيأتي هو الذي أرعبه واستدعاه للتورط في حرب "الانحيازات" و"الاصطفافات" التي أُقحم فيها إقحامًا؟

المدينة السرابية

نيالا، مدينة وادعة وواعدة تقع في جنوب دارفور بغرب السودان، كنت أسميها خيالًا بـ"المدينة السرابية"، والسراب هنا لا يحيل إلى التبدد أو الضياع بقدر ما يحيل إلى السحر الكامن وراءه. هكذا لسنوات كنت أراها -في خيالي- محاطة بالغيوم والضباب وكأنها مدينة مستلفة من ليالي "ألف ليلة وليلة". ربما يعود هذا لكونها مدينتي الطفولية الخيالية التي تسكنني أبدًا. في الواقع ولسنوات بعمر المدينة ظل أهل نيالا يخرجون كل يوم جمعة إلى البراري الساحرة المحيطة بها: جنائن المانجو والبرتقال، والأودية الساحرة التي تلتف حولها، وأسواق المشويات الشعبية بأطعمتها الشهية المعدة على نار من مهل.

ما لم يتصوره أو يتخيله –أتخيله– أهل نيالا أن يأتي عليهم يوم سيخرجون فيه إلى هذه البراري ذاتها، فارين وهاربين، ناجين بأنفسهم وتاركين كل شيء خلفهم في مدينتهم المحترقة بقذائف الدانات والمدافع وبراميل الطائرات.. من نجا هناك ومن مات لم يخطر بباله قط أن الحرب ستقتحم يومًا القلاع المنيعة لـ"المدينة السرابية"؛ لكن الخيال واللا متصوَّر وقع وقوع المحظور!

القائد الإسفيري

فوجئ الأصدقاء "الإسفيريون" لكاتب ومنتج الخيال عزت الماهري، بأنه هو نفسه يوسف عزت المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع! مكمن المفاجأة تأتى من كونهم لم يتصوروا مطلقًا أن خالق عوالم وشخصيات النص السردي البديع "جقلا نشيد الرمل" سيتورط إلى هذا الحد في السياسة إلى أن يعتلي فوهة البنادق والمدافع ممثلًا لإحدى الفئتين المتقاتلين! هذا "خيالي"! ربما صرح بعضهم إلى البعض بهذا أو أسروا به إلى أنفسهم. فما يدور من قتال الآن وبكل تداعياته الغرائبية لم يكن متوقعًا لأكثرهم، وأن يكون صديقهم -منتج الخيال- جزءًا من هذه المخيلة الغرائبية أو المقتلة المرعبة أيضًا لم يكن شيئًا متصورًا. فأي خيال أنتج هذه الحرب "العبثية"، أو أي مفاعل للتخييل أنتج شخصياتها الفاعلة والمنفعلة بها تأثيرًا والمحركة لها في لهيب النيران؟ أهو الخيال الجمعي "الباطن"، اللا منظور، المخفي بـ"الغباش" و"عكرة" الماء وصرير الريح في البوادي؟!

ما الخيال؟

يمكننا تقريب معنى الخيال كالتالي: "نشاط إنساني ينجز التأمل الذاتي بعيدًا عن الواقع وقريبًا منه، وفيه تتجسد قدرة العقل أو النفس البشرية على اختراق الغوامض التي يمثلها مأزقها الوجودي". فهل اخترق إنسان السودان غوامض مأزقه الوجودي وأنتج حربه التي لا تبقي ولا تذر أملًا في سكون "رحاها" حتى يبصر جنته المحلومة أو المتخيلة.. تلك التي تقع عند الضفة الأخرى للحرب والموت والدمار، ضفة السلام والأمن والطمأنينة؟

قد يبدو هذا خياليًا و"عبثيًا" فـ"الخيال" –مثلما يقول ناصر السيد النور- "مفردة مثيرة للغموض والدهشة، لكنها تظل محفزًا مستمرًا في التجربة الإنسانية ومصدرًا للارتقاء بالحالة الإنسانية في أفقها المعرفي والبحث المستمر عن حلول لمشكلات الواقع. وأنماط الحياة والعلوم والمعارف تكونت في الخيال وتم إنجازها لاحقًا في العالم المادي".

جثة على الحافلة

في أديس أبابا، ذات أمسية باردة تهيج الأوجاع، حكى لي الصديق الشاعر (ح.ع) عن رحلة غرائبية خاضها بهدف اللجوء والنزوح من مسكنه في حي "الحاج يوسف" في شرق النيل، إلى مدينة حلفا الجديدة في أقصى شمال البلاد، ومنها عودة مرة أخرى إلى "الحاج يوسف"، عن طريق مدينة أم درمان وعبر كوبري الحلفايا، أحد مراكز القتال الرئيسة في العاصمة الخرطوم. تفاصيل الرحلة كلها تفوق التخييل، بيد أن نهايتها المؤلمة هي ما أفزع الشاعر وأطار النوم والأحلام من حياته لأيام وأعطب عنده مكامن "الخيال". ارتكاز للجيش أوقفهم، تحدثوا مع سائق الحافلة ثم صعد أحد الجنود إلى الداخل ليفتشهم. اشتبه في شاب ما – لم تكن معه هوية. دار نقاش قصير بين الجندي والشاب، وبعدها أنزله الجندي من الحافلة إلى الأرض ليتابع بقية الركاب الجدل الدائر بين الشاب وجنود الارتكاز ثم فجأة والجميع ينتظر تحرك الحافلة دوى صوت الطلق الناري وتهاوى الشاب ميتًا والدماء تتفجر من رأسه. لم يفهم أحد لمَ قُتل. لم يفهم أحد كيف حدث هذا لشخص كان قبل دقائق يضج حيوية ويفيض بالنكات الساخرة مضحكًا جميع الركاب. قال الشاعر: "المؤلم أنهم أجبروا سائق الحافلة على حمل الجثة والذهاب بها إلى "أي مكان".. كان ممدًا بيننا والدماء تجري بين أقدامنا بينما الدموع تسيل على الوجوه".

أي قصيدة تلك التي ستنتجها ذاكرة الشاعر الآن؟ وأي كوابيس من الكلمات ستتشكل؟   

في تعريفه للخيال الروائي يقول الناقد ناصر السيد النور: "لا يتحكم الخيال الروائي في بنية النص الروائي وحسب، بل ينتج الشكل الروائي ويظل حاكمًا لمساره وما يتطور عنه من أحداث متصورة خيالًا بالاستناد إلى بنية معرفية كتابية سردية. فالنص الروائي بوصفه فضاء يتفاعل فيه الخيال واللغة مازجًا بين رؤية سردية تقرأ أحداثًا عبر شخصيات مجسدة بالمعني السردي في الشخصية الروائية، ورؤية تخييلية سردية مخططة من أجل تشييد عالمٍ ما، فالفضاء بالتالي جزء جوهري من الفعل الذهني لإعادة تشييد العالم ما دام الخيال لا يمكنه إلا أن يصور الأشياء التي تبدو امتدادًا فضائيًا فسيحًا مخصبًا جماليات الواقع".

ما الذي "رآه" روائيو السودان قبل هذه الحرب مقترنًا بحروب السودان الماضية؟ وأي روائي منهم لم يستلهم حرب الجنوب، حرب دارفور، حرب النيل الأزرق، حرب جبال النوبة، حروب القبائل المتناحرة هنا وهناك في نص من نصوصه؛ مباشرة، أو تشكل الحرب خلفيته المغذية للأحداث والبانية للشخوص والمصائر المتخيلة خلقًا! فهل تكوَّن في ذاكرة أحدهم مشهد ما من مشاهد الخرطوم المحترقة الآن؟

اعتقلت قوات الدعم السريع الروائي والكاتب مازن مصطفى ضمن من اعتقلت من أناس. وفي الأكيد لم يكن يعلم معتقلوه من هو، وإلى ماذا يرمز وجوده الكينوني غير المنظور.

انخرط الروائي والقاص والسيناريست عبدالحفيظ مريود "صانع الخيال متعدد المشارب"، في كتابات نقدية متصلة بالحرب المحتدمة في السودان، منتقلًا بشكل صادم لزملائه ورفاقه القدامى "في العمل وربما التنظيم"؛ من مربع مناصرة القوات المسلحة إلى نقدها بعنف والانحياز الواضح إلى قوات الدعم السريع، مسندًا موقفه هذا على "خطاب الهامش" وأيديولوجيته ورؤيته لـ "سودان الغد" ضد "سودان 56". هل أبصر "خيال" مريود ما لم يبصره الآخرون؟ أم أن الأمر لا يتعدى محاولة حالمة لبناء "بلد من خيال"؟

جوف التمساح

اعتقلت قوات الدعم السريع الروائي والكاتب مازن مصطفى ضمن من اعتقلت من أناس. وفي الأكيد لم يكن يعلم معتقلوه من هو، وإلى ماذا يرمز وجوده الكينوني غير المنظور. وأكاد أجزم أن كثيرين لم يسمعوا به أو يتمكنوا من قراءة روايته المدهشة "عنقاء المديح المنمق"، فما يكتبه مازن خيال صرف، كالموسيقى البحتة، لغة منحوتة لوقتها وفي وقتها، وأحداث وشخوص وأمكنة توجد هنا فقط في هذا المتن ولن تعثر عليها خارجه أبدًا. إنه الخيال في أقصى تجلياته وإبداعيته. شخص ما يؤشر لنا ملوحًا من داخل بطن تمساح! هذا في الرواية، أما في الواقع أوشك التمساح أن يطبق فكيه على جسد مازن نفسه لولا أن أنقذته مناشدات وتحركات رفاق الخيال. كيف ستكون رواية مازن مصطفى القادمة، بأي لغة بكر سينحتها وبأي خيال يعجن النار بالماء سيشكلها؟