أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يديره المفكر العربي عزمي بشارة، تقريرًا مطولًا يتناول بالتشريح ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، متطرقًا للسياقات التي جرت فيها أحداثها والفاعلين الرئيسيين فيها والعقبات والتحديات التي تواجه مخاص التجربة الانتقالية في السودان. التقرير الصادر بتاريخ 6 حزيران/يونيو الجاري والذي حمل عنوان: "ثورة ديسمبر السياقات والفاعلون وتحديات الانتقال الديمقراطي في السودان" هو الثالث في سلسلة التقارير المطولة التي تصدرها وحدة الدراسات السياسية بالمركز العربي للأبحاث ومقره الدوحة. وهو تقريرُ مطول يأتي في (36) صفحة مقسم إلى ثماني أقسام.
يتميز التقرير في تناول الحالة السودانية بالراهنية والمواكبة التي تطالعك في وتناوله للحدث المعني
مقدمة التقرير أو المفتاح
مقدمة التقرير هي ملخصُ مكثف وشامل لما ورد في التقرير من توثيق وسرد وتحليل ولمجريات ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 والتحديات التي تواجه مسارها، دون أي إغفال أو تغافل عن الفاعلين الرئيسيين وأدوارهم أو المؤثرات الفعلية على مسار الثورة وما يمكن أن تتسبب فيه، أو العقبات الجدية التي تعترض مسارها وتأثيرها على مجمل مسار الحراك الثوري منذ بدايته وحتى لحظة صدور التقرير.
اقرأ/ي أيضًا: تقرير جديد: الدعم السريع فض الاعتصام وتحجيم العسكر هو الطريق للاستقرار
ما يميز تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في تناول الحالة السودانية هو راهنيته ومواكبته التي تطالعك في التقرير وتناوله للحدث المعني، ليس بوصفه ماضيًا فقط وجبت دراسته، وإنما الوعي المعرفي الزائد بالحالة السودانية ومجرياتها ما حدا بالتقرير لعكس حالة الراهنية والتي تميزت بها ثورة السودانيين كونها لم تنقضي بتغيير النظام وإنما تتطلع إلى القيام بدور رقابي مستمر طوال فترة الانتقال الديمقراطي المحددة بثلاث سنوات. –وفقًا للوثيقة الدستورية.
تحليل الفاعلين الاجتماعيين
على الرغم من إشارته الواضحة لتعدد وتنوع وتباين الفاعلين الاجتماعيين في الثورة السودانية، حصر التقرير الفاعلين الرئيسيين في ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018، في ثلاث فئات رئيسية، كان أولها شريحة الشباب، ثم التنظيمات المهنية التي شكلت تجمع المهنيين السودانيين، ومن ثم الأحزاب والقوى السياسية وحركات الكفاح المسلح التي شاركت في تكوين قوى إعلان الحرية والتغيير.
التقرير يلفت النظر بشكل مميز لدور الشباب البارز والمتقدم في صناعة التغيير دونًا عن بقية المكونات، إلا أنه وبكل موضوعية يعترف بالدور القيادي لتجمع المهنيين السودانيين في قيادة وتحريك وإشعال جذوة وتصدر موقع القيادة في الثورة، ومن ثم يأتي ليسمي القوى السياسية الحزبية والحركات المسلحة كشريك وفاعل أساسي يأتي في المرتبة الثالثة بعد الشباب والمهنيين في قيادة وإنجاح الثورة.
لكن لا يغفل التقرير دور القوى السياسية الحزبية في تشكيل وبلورة التحالف المعارض الذي أصبح لاحقًا الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية الحالية، لكن دون الخوض كثيرًا في التناقضات التي تفرق دون أن تجمع بين مكوناته.
ويتطرق التقرير للدور الحاسم لقوى الكفاح المسلح في تبني ودعم المسار السلمي للثورة وما نتج عن هذه الخطوة. مرورًا بموقفها الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية وموقفها كذلك من تشكيل الحكومة الانتقالية وأثره على الحكومة وتجربتها التي شارفت عامًا من عمرها.
السياقات الاقتصادية للثورة
يتناول التقرير بتفصيل السياقات الاقتصادية التي أفضت إلى اشتعال الثورة، ويشخص حالة البلاد الاقتصادية ويحدد ثلاثة عوامل رئيسية ساهمت في مفاقمة الأزمة الاقتصادية ودفعت بالنظام إلى شفا المواجهة مع ثورة شعبية عارمة. يسمي التقرير العامل الأول بالنزعة القبلية للسياسات الاقتصادية للأنظمة السودانية المتعاقبة منذ الاستعمار الإنجليزي وحتى فترة النظام البائد، والتي عززت التنمية غير المتوازنة وعمقت التفاوتات الاجتماعية بين السودانيين.
اقرأ/ي أيضًا: جوبا: إعلان حركة مسلحة جديدة تهدف للإطاحة بالرئيس سلفا كير
أما العامل الثاني فيصفه التقرير بالسياسات الاقتصادية الريعية الزبائنية التي تنتمي لحقبة الاستعمار لكنها تجذرت في فترات الحكم الوطني اللاحقة. وجاء بروزها وهيمنتها في حقبة انقلاب الإنقاذ وسيطرته على الاقتصاد عبر سياسة التمكين وبيع عشرات المؤسسات الحكومية الرابحة في صفقات فساد وإنشاء شركات حكومية بديلة لها لتغذية جهاز الدولة القمعي.
ويحدد التقرير العامل الثالث في الجانب الاقتصادي الذي ساهم في اشعال الثورة، بما أسماه السياسات الاقصائية التي أنتجت فصل مئات الآلاف من الموظفين السودانيين لعدم موالاتهم للنظام البائد وما تبعه من آثار وخيمة على الخدمة المدنية وأداء الدولة الاقتصادي ومن ثم مفاصلة الإسلاميين ذات نفسهم فيما جرى بينهم من خلاف.
تأثيرات سياسة رعناء لثلاثة عقود
يتتبع التقرير تأثيرات سياسات الإنقاذ وصلفها بعد عقد من الحكم على كل من الاقتصاد وتأثراته الاجتماعية على السودانيين، قبل أن يتطرق لحجم الضرر الذي الحقته سياسات النظام بالاقتصاد والبنى الاجتماعية ومألات حال النظام بعد ثلاثة عقود من التخريب الممنهج والفساد وعدم المساءلة والمحسوبية والقمع الممارس طوال هذه الفترة.
يفصل التقرير تحديات الفترة الانتقالية في الإصلاح في أربعة تحديات تتمثل في تعبئة الموارد الاقتصادية وبناء قدرات جهاز الدولة وعبء الديون الخارجية
تحديات التغيير والإصلاح راهنًا
بعد العرض المستفيض والشامل الذي يقدمه التقرير لفترة حكم النظام البائد وحالة التجريف التي طالت كل البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالبلاد، يخصص التقرير قسمًا بارزًا لتحديات التغيير لفترة ما بعد الثورة، ويجملها في أربعة محاور، هي السيطرة على موارد البلاد من الصادرات لاسيما الذهب، وكيفية التحكم في والسيطرة على وإصلاح ما أسماه بالاقتصاد الرمادي المعتمد على شركات حكومية مملوكة للأجهزة الأمنية والعسكرية وكيفية إصلاحها لتصب في حزينة الدولة، وبناء قدرات مؤسسات الدولة الاقتصادية بشكل سريع ومبتكر يساهم في إنعاش اقتصاد البلاد المنهار، ومواجهة ديون البلاد الخارجية التي فاقت (50) ترليون دولار، وتنقية سجل الدولة من تهم الإرهاب التي وصمها بها النظام البائد.
المؤسسات العسكرية وتحدي الانتقال
هذا الجانب من الدراسة يتناول أهم التحديات التي تواجه الحكومة الانتقالية، وهو العلاقة بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، فبخلاف انحياز العسكر على مضض للثورة وتشكيلهم حكومة موحدة مع القوى التي قادتها، ليس هناك ما يشير إلى حرصهم على الانتقال الديمقراطي بتجربة الثورة السودانية، لكن والأهم هو ما يشير إليه التقرير بـ"غياب المشروع الوطني الموحد" بين القوى المدنية والعسكرية التي تتولى الحكم في الفترة الانتقالية، وليس فقط حالة عدم الانسجام والاتهامات المتبادلة والمناوشة المستمرة وعدم الثقة المترسخة بين الطرفين، مما يجعل هذا التحدي حاسمًا في نجاح أو فشل انتقال السودان لبناء تجربة ديمقراطية.
يُشرح التقرير واقع المؤسسات الأمنية والعسكرية بالبلاد والأخطار البائنة التي تكتنفها، في القوات المسلحة ومليشيات الدعم السريع وجهاز المخابرات العامة، وارتباطاتها الداخلية والخارجية، ويشير التقرير إلى وجود جيوش ومليشيات وأجهزة أمنية ما من رابط مؤسسي واضح بينها، مقسمة الولاءات ومتنازعة القيادات والاستقطابات، وذات بنية مطابقة لنظام استبدادي بائد ولا تصلح بشكلها الحالي للاستمرار ضمن الفترة الانتقالية، ناهيك عن أن تسهم في إنجاحها.
التوازنات ومواقف الجوار الإقليمي والدولي
يتطرق التقرير بشكل موجز إلى أدوار قوى الثورة المضادة في كل من مصر والسعودية والإمارات ومحاولاتها إعاقة التغيير وحرف دفته أو على الأقل استمالة بعض الأطراف المشاركة فيه، إلى جانب علاقة هذا المحور بالمكون العسكري الحالي المشارك في الحكومة الانتقالية وببعض مكوناتها المدنية الأخرى، كما يتطرق التقرير إلى دور كل من قطر وتركيا في فترة النظام البائد ومواقفهم من التغيير الذي أطاح بالمخلوع البشير وحكومته، دون أن يغفل دور قطر في مباحثات السلام السابقة بالسودان وترحيبها بالتغيير الذي انجزته الثورة السودانية.
ثم يتطرق التقرير في ختام هذا القسم لمواقف كل من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، مواقف هذه الأطراف من مجريات التغيير في البلاد ومستقبله.
اقرأ/ي أيضًا: خبير قانون دولي: الحكومة تهدر الوقت بدلًا من إيجاد حل لمجزرة القيادة
تحديات الانتقال الديمقراطي
في هذا القسم يضع التقرير مسألة تحقيق السلام في الصدر من تحديات تحقيق انتقال ديمقراطي ناجح للتجربة السودانية، تليها مسألة الإصلاح الاقتصادي ومن ثم هيكلة الأجهزة العسكرية والأمنية التي خلفها النظام البائد، ثم طريقة واستراتيجية تعامل الحكومة الانتقالية مع تناقضات الوضع الإقليمي والدولي خصوصًا مع حالة الاستقطاب الحاد التي يمارسها محور التطبيع مع إسرائيل "الإمارات، مصر، السعودية، البحرين وأمريكا" مع الحكومة الهشة وغير المستقرة في السودان.
يضع التقري مسألة معالجة الحكومة الانتقالية لملف مجزرة فض الاعتصام ضمن التحديات التي تواجه الانتقال الديمقراطي في السودان، فوحشية الجزرة ومشاركة أطراف متهمة بارتكابها ضمن مسار الانتقال مع وجود قوى ثورية تطالب بالقصاص من مرتكبي المجازر التي تمت، هو أحد أهم المعضلات التي تواجه الانتقال الديمقراطي بالبلاد، ومن دون خروج لجنة التحقيق بإدانات واتهامات للجهات الرئيسية التي ارتكبت المجزرة، فإن حلم الانتقال الديمقراطي للبلاد سيكون مجرد نزوة لا يسندها أي تحريك فعلي للوقائع نحو الأمام.
يصف التقرير الثورة السودانية بأنها واحدة من أنجح الثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الماضي؛ لأنها اتسمت بالسلمية، والعزيمة والإصرار
خلاصات وتوصيات
على الرغم من كل هذه التحديات الجسام التي طرحها تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في تناوله لتجربة الثورة السودانية، إلا أنه يصفها في خاتمته بأنها "واحدة من أنجح الثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال العقد الماضي؛ لأنها اتسمت بالسلمية، والعزيمة والإصرار على اقتلاع نظام شمولي، حكم السودان قرابة ثلاثين عامًا، حزيران/ يونيو 1989 - نيسان/ أبريل 2019".
إلا أن التقرير يوصي بضرورة وحدة قوى الثورة وتماسكها وضرورة انتقال النقاش بينها من المحاصصة في الفترة الانتقالية إلى الاتفاق الملزم حول طبيعة نظام الحكم. مع التشديد على التفاهم مع الجيش على الخروج المتدرج من السياسة والعودة للثكنات، وهو ما يقول التقرير إنه يحتاج إلى التفافٍ وطنيٍ حول كمطلب.
اقرأ/ي أيضًا
التحالف السوداني: الأموال هربت إلى الإمارات وماليزيا ويمكن استردادها قضائيًا