لأكثر من أسبوع ظلت المواقع الإلكترونية المهتمة بالشأن السوداني ووسائل التواصل الاجتماعي تضج بأخبار منسوبة لمصادر حول توافق رسمي وسياسي بين الحكومة وتحالفها الحاكم على إقالة وزير الصحة الدكتور أكرم علي التوم، من موقعه، وقد انتهت تلك الحملة في اليومين الماضيين للكشف بحسب الأخبار الصادرة عن توافق بين مجلس السيادة والوزراء وقوى إعلان الحرية والتغيير على إقالة وزير الصحة، وأرجعت المصادر القرار لفشله في التعامل مع تداعيات جائحة كورونا.
أعادت صفحة تابعة للمجلس السيادي نشر خبر إقالة وزير الصحة بعد حذفه فأثارت عاصفة سياسية كبرى
ما حدث لاحقًا كان مربكًا لطيفٍ واسعٍ من المراقبين السياسيين، حيث أوردت صفحة رسمية ناطقة باسم مجلس السيادة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وضمن خبر حول تعيين وزير الدفاع الجديد الفريق معاش ياسين إبراهيم -بديلا عن الوزير الراحل جمال عمر الذي توفى خلال مباحثات السلام بجنوب السودان- خبرًا عن توصية خرج بها اجتماع ثلاثي جمع مجلسي السيادة والوزراء بممثلين لقوى إعلان الحرية والتغيير لرئيس الوزراء بإقالة وزير الصحة.
اقرأ/ي أيضًا: مصدر حكومي: من الصعب طرح الوظائف المقربة من رئيس الوزراء للمنافسة العامة
الخبر الذي تم سحبه سريعًا من الصفحة المذكورة، أثار ردود أفعال سياسية كبيرة، إذ سارعت قوى الحرية والتغيير والحكومة الانتقالية لنفي صدور التوصية، مع تأكيد دعمها للوزير وسياسته، وتواصلت البيانات الداعمة من قوى الثورة، فدخلت لجان المقاومة على الخط، معلنة رفضها لما يجري مؤكدة مساندتها للوزير في وجه الهجمة التي يتعرض لها، وأكدت استعدادها للعودة للشوارع من جديد، رفضًا للقرار حال صدوره، فيما أصدر تجمع المهنيين السودانيين وبعض مكوناته مثل شبكة الصحفيين، بيانات رافضة "لتجاوزات المجلس السيادي".
وبعيدًا عن روح الاستقطاب العنيف التي غمرت الساحة، وما يتم تداوله عن ضلوع مجموعة من الأطباء في حشد المواقف الرامية للإطاحة بالوزير، وما أثير عن اجتماعات مع مسئولين سياديين ووزراء. سبقت عقد الاجتماعات التي توجت باجتماع 3 أيار/مايو المشار إليه في بيان المجلس السيادي، فيبدو إن من اصطفوا من المدنيين سوأ كانوا مسئولين حكوميين أو من الحقل الطبي في مواجهة الوزير، ولجأوا لمغازلة العسكر، كانوا يوسعون من جبهة الحصار للوزير، ويحكمونها، فمن غير المتوقع أن الأطباء الذين ظلوا يعقدون الاجتماعات، ويناقشون الأوضاع الصحية مع "مسئول المجلس السيادي"، في غيبة الوزير المسئول لم يكونوا على علم بحدود اختصاصات مستويات السلطة، فأغلبهم من الناشطين سياسيًا، بل أغلبهم من المنتمين لقوى سياسية، تعمل في إطار الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، وبالتالي فهم أدرى الناس بأن المجلس السيادي لا يملك من أمر تقييم وعزل الوزراء شيئًا، فذلك ليس من ضمن اختصاصاته ولا مسئوليات أعضائه.
المجلس السيادي ليس من صلاحياته واختصاصاته تقييم أو المطالبة بعزل الوزراء حسب الوثيقة الدستورية
لقد حددت الوثيقة الدستورية التي تحتكم لها مؤسسات الحكم الانتقالي بوضوح مسئولية التقييم والإقالة للوزراء، حيث تضمنت الوثيقة الدستورية في الفصل الخامس، المتعلق بمجلس الوزراء باب فقدان عضوية المجلس، المادة ١٥ (أ، ب، ج، د، ه، و) على التوالي، إن الوزير يفقد عضويته باستقالة رئيس الوزراء وقبولها من المجلس السيادي والتي تنسحب على كامل حكومته، أو باستقالة الوزير نفسه وقبولها من قبل رئيس الوزراء واعتمادها من المجلس السيادي، أو بإعفاء الوزير أو سحب الثقة منه بواسطة رئيس الوزراء، أو بسحب الثقة بواسطة المجلس التشريعي بأغلبية الثلثين من أعضائه "تنعقد حاليًا لاجتماع المجلسين مهام المجلس التشريعي مؤقتًا"، ولكن سعى من يعملون للإطاحة بالوزير لترك هذه القضية بيد رئيس الوزراء، هربًا من عملية التصويت المحتملة في حال عرض القرار على الاجتماع المشترك، إذ من المحتم وفق الحساب البسيط أن لا ينجح مثل هذا القرار في الحصول على الأغلبية، وتتضمن أسباب فقدان العضوية الإدانة القضائية في جريمة تمس الشرف والأمانة والذمة المالية، أو المرض المقعد، أو الوفاة.
تكشف هذه المعركة عن تورط مجموعة من التنفيذيين والسياسيين، في هذه الحملة السياسية المنظمة، مما يثير شكوكًا متنامية حول حقيقة دوافعها، بينما تتناثر الشائعات التي تنشط فيها عناصر النظام البائد، استثمارًا للأزمة وتوسيعًا لنطاقها ضمن هدفها الأساسي وهو إضعاف الحكومة الانتقالية، لا سيما في شقها المدني، وتقوية للعسكر في إطار موالاتهم التاريخية لهم طوال ثلاثة عقود.
اقرأ/ي أيضًا: موظف في مكتب كبير مستشاري رئيس الوزراء متهم بالتآمر على وزير الصحة
وقد تسربت أخبار الاجتماعات المتتالية التي تم عقدها لهذا الغرض، ومن شاركوا بها للرأي العام، وهي حملة تداخلت فيها الجهات المتربصة بالوزير الذي جذب الأنظار بخطاباته المباشرة، التي تبنت منهج المكاشفة وطرح الحقائق للشعب حول جائحة كرونا، وطرق التعامل معها وإرشادات وموجهات وزارته لتجنب مخاطرها.
وإذا كان مفهومًا العداء المستحكم بين الوزير وقوى الثورة المضادة، كيف يمكن استيعاب هذه الحملة التي تشن من قبل عناصر مدنية تنتمي لذات معسكره، وتلجأ لاستقطاب دعم العسكر في مواجهته، فما الذي أثار هذه العاصفة؟
لقد شهد الحقل الطبي لسنوات صراعات ضخمة بين مافيات النظام البائد، التي حققت ثروات طائلة في مجالات الصيدلة والدواء، ويذكر الناس قضايا مثل قضيتي محاليل كور، وأدوية جلفار الشهيرتين، التي انتهت في ساحات المحاكم، كما برزت الصراعات في مجالات المعدات الطبية والمستشفيات والمستوصفات الخاصة، وهي مجالات خلقت طبقة تقاتل من أجل مصالحها، فما الذي يدفع بالناشطين السياسيين لحلبة هذا الصراع، وما الذي يحملهم لاستهداف الوزير الذي تبدو غالبية قراراته حتى الآن تصب في مصلحة المواطن المغلوب على أمره؟!
تحتاج إدارة كارثة صحية بحجم جائحة كورونا لدعم القطاع الصحي، وتسخير كافة موارد الدولة لدعمه، وقد شهدنا كيف ضربت الجائحة الدول الكبرى وكشفت عجزها عن مواجهة سرعة انتشار الوباء، فحصد الأرواح ودفع الملايين لالتزام حجر صحي متطاول، وآخر ما يحتاجه الوضع المتدهور، هو الزج بهذا القطاع الذي تتصدى كوادره لمواجهة تفشي الوباء معرضين أنفسهم للمخاطر إلى الإسناد وتجنيبه الاستقطاب السياسي كقطاع مهني تخصصي، وصراعات المصالح والنفوذ، ومن ثم معالجة كل الإشكالات التي تواجه منسوبيه دعمًا لهم وتقديرًا لجهودهم.
حان الوقت لمراجعة أداء كافة مستويات الحكومة الانتقالية وتقييدها بصلاحياتها وتقييم تحالف الحرية والتغيير
إن الواقع السياسي يحتم إجراء مراجعة لأداء الحكومة الانتقالية، ومدى التزام أطرافها سوأ المجلس السيادي أو مجلس الوزراء، بحدود صلاحياتهم ومراجعة الموقف على كافة المستويات، لا سيما مع تنامي الفتن والصراعات القبلية في مختلف أنحاء البلاد، وتزايد مهددات عناصر النظام البائد تحت سمع وبصر الأجهزة الشرطية والأمنية، التي صار من المهم مراجعتها وتطهيرها من الجيوب التي تعمل لتعطيل وحرف مسار الثورة، ومراجعة ملف السلام الذي تم خرق الوثيقة الدستورية في طريقه، بالإضافة لقضايا الاقتصاد ومعاش الناس، ومتابعة الملفات العدلية ومحاسبة رموز النظام البائد التي ما زال بعضها طليقًا، يساهم في نشر حالة الفوضى، بدلًا من حالة التربص والكيد والصراعات والمؤامرات الجارية حاليًا.
كما أن الحرية والتغيير أولى بمراجعة ما يقوم به منسوبيها، ومراجعة أوضاع التحالف، والذي بات يحتاج أكثر من أي وقت مضى لإعادة تنظيم شاملة، تجنبه مخاطر التفكك والانقسام، وتلزم عضويته بمواقف سياسية تنسجم مع مقتضيات وضرورات المرحلة.
اقرأ/ي أيضًا
النيابة تعليقًا على وفاة "بدر".. لا مزايدة أو تسييس على الواجبات الدستورية
اتفاق شركاء الحكم في السودان على حل القضايا الخلافية التي نشبت مؤخرًا