07-ديسمبر-2019

بعض من طاقم الفيلم (الترا سودان)

يرى هيجل أن ظهور الرواية مرتبط بالتطورات الاجتماعية/البرجوازية وأن الانتقال من الشعر إلى النثر انتقال من المشاع إلى الرأسمالية، وأن كل واقع اقتصادي جديد يقرر شكله الأدبي اللائق.

رؤية هيجل تفترض مناخًا معافى، أو ربما ملطفًا برذاذ الحريات في التعبير والتناول غير المُجرّم للواقع، ولو كان من أطراف غير سياسية لا تملك من العدة والعتاد أن تدخل في صدامٍ مباشر مع السلطة.

كل ما على الديكتاتوريات فعله، في هذه الحالة للأعداء الاقل شأنًا، في منازعتها على السلطة هو تدجين السلطة المجتمعية بأدواتها قبل أن تطلقها في أثرهم لاحقًا. ومن حسن حظ الأنظمة أن سلطة المجتمع تعمل على ردود الفعل ولا تنتظر إشارة من السلطة بالهجوم. لنسمها استثمارات المستقبل الآمنة للأنظمة الشمولية، استثمارات تدر أرباحًا حتى بعد سقوط الأنظمة نفسها!

واجه فيلم ستموت في العشرين انتقادات حادة وعنيفة من قطاع في الجمهور السوداني، وسالت أحاديث من شاكلة أن الفيلم يمثل أمجد أبو العلاء وحده ولا يمثل السودانيين.

واجه فيلم ستموت في العشرين للمخرج السوداني أمجد أو العلاء انتقادات حادة وعنيفة من قطاع في الجمهور السوداني، فسالت أحاديث من شاكلة أن الفيلم يمثل أمجد أبو العلاء وحده ولا يمثل السودانيين، بعد تسرب مقطع من الفيلم الحائز على عدة جوائز من بينها جائزة المستقبل في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته الـ(76).

اقرأ/ي أيضًا: الأيقونات الثوريّة.. جدليّة الرمز وصاحبه

ليس ذلك بمدعاة للاندهاش أكثر منه محاولات البعض في التبرير بالحوجة الفنية للمشهد المثير للضجة، وما يمثله من أهمية في عكس رؤية المخرج الذي قال في وقت سابق: "الفيلم يحاول رصد فكرة الاختلاف. وفتح نوافذ مختلفة للعالم لبطل الفيلم (مزمل) وأن يعرف هذا الاختلاف خارج قريته المغلقة".

ومع كل ما يحمله التبرير من توافق ضمني مع الجمهور الساخط على محاكمة الفن، يبقى ما يثير الدهشة أن الموافقة على المحاكمة غير الفنية جاءت من منشغلين بالثقافة والفنون في الفضاء السوداني، قبل أن يثير الضحك اختلافهم مع الجمهور الذي نطق بالحكم مسبقًا، ليبقى لهم فقط اللجوء إلى الدفاع عن المشهد لأهميته في عكس فكرة الفيلم!

بينما الفيلم يحصد الجوائز والترشيحات في الخارج يكشف بالداخل الضعف البنيوي للمثقف السوداني الذي سوّق كثيرًا وأثناء العهد البائد -وبإيحاء من السلطة- لرسالية المبدع والفن، والدور الملزم للفنان تجاه مجتمعه -الذي اختلف عنه و خرج عليه!- وجعله من الإبداع مجرد فُرجة لا صيرورة آخذة في التشكل، وأيضًا وقوعه من قبل في فخ السلطة المنصوب  للفن والإبداع والذي يشير إليه أمجد نفسه بقوله "لأنني من بلد كانت تحت نظام كان لا يدعم السينما"، كأفصح بيان عن ما يمكن أن يمثله الفن الخالص من مهدد للأنظمة الشمولية والديكتاتوريات، عن طريق الخروج على سلطة المجتمع المدّجن من قبل الأنظمة - أولًا- و لاحقًا للخروج على سلطة الأنظمة نفسها. ما يؤدي لمعاداة السلطة بكافة مستوياتها للفنون لا دعمها بطبيعة الحال!

اقرأ/ي أيضًا: "احتفالية النهر".. معرض للتشكيلي صلاح المر في الدوحة

الفنان هو من يحاكم الواقع لا العكس، والمبدعون عمومًا على اختلافاتهم  لا يعتبرون بأي حال من الأحوال أبناءً بارين بالمجتمع

سوء التفاهم في المشهد الإبداعي السوداني يكمن أولًا في الجهل بالتعريفات، وبالطبيعة التي تحتكم إليها المفردة المعرفة. إن الفنان هو من يحاكم الواقع، والمبدع بكل تنويعاته لا يعتبر بأي حال من الأحوال ابنًا بارًا بالمجتمع، بالعكس تمامًا. يفترض في الفنان العقوق كشرط أساسي من شروط الإبداع، ومن البديهي بمكان قول ذلك. فالإبداع يعني بالضرورة الاختلاف، الخروج عن النمط السائد، كسر القوالب وتشكيل أخرى لا تجف ثابتة على شكل محدد. وهو ما يحرك المبدع من رغبته القاهرة في أن لا يكون رقمًا آخر من أرقام الدولة أو صورة أخرى من الصور المكررة للأب و للجد كما رسمتها وترسمها أعين المجتمع.

أما ثانيًا فهو ما افترضه أمجد نفسه لواقعه آنذاك قبل عام من الآن، من "الزوال" كما عبر في ختام كلمته عشية فوزه بالجائزة: "اشعر بالفخر والسرور لأني كنت أشاهد الحفل في التلفزيون لنحو (20) عامًا ولم أكن أعرف أنني سأقف هنا يومًا ما لأنني من بلد لا تعرف السينما ولأنني من بلد كانت تحت نظام لا يدعم السينما، وأقول كانت لأن بلدي شهدت ثورة طردت ذلك النظام".

الآن فيلم "ستموت في العشرين" ملاحق بالسلطة المجتمعية التي ورثّها النظام الذي طُرِد، تركة الدفاع عن أخلاق الجمهور وحفظ أخلاق المشاهد من الإفساد، مع الإيحاء المتواصل بأن الجمهور بهائمي وجاهل بامتياز ولا بد من وجود "النظام" الذي يحميه حتى من نفسه.

نجاحات "ستموت في العشرين" لن تقتصر على الجوائز فحسب، ولكن أيضًا بخضخضة الواقع الفني الراكد قبل أن تتعداها إلى أن يكون العمل الفني الملهم -في خروجه عن الإطار الموضوع بواسطة السلطة- لكل ما ستتمخض عنه السينما السودانية في مقبل الأعمال، خصوصًا أن ما يحدثه من جدل باد، أقرب إلى كرة ثانية في النظر نرجعها في اتجاه حركة الفنون الإبداعية في السودان ونقدها.

 

اقرأ/ي أيضًا

الكنداكات: لؤلؤ ولوتس النيل.. معرض يحتفي بإسهامات المرأة السودانية

"أفلام في الشارع".. مبادرة تحكي قصة جيل الثورة