09-نوفمبر-2023
شباب يتطوعون في إعداد الطعام في أحد مراكز إيواء النازحين في ولاية الجزيرة

يشرف على مراكز إيواء النازحين في معظم الولايات شباب متطوعون معظمهم ناشطون في لجان المقاومة (Getty)

بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب في الخرطوم بين الجيش والدعم السريع، خرجت بأسرتي في محاولة للنجاة من جحيم النيران. وصلنا إلى مدينة القضارف شرقي السودان والفصل خريف. وخريف القضارف مدرار لكثير من الأمطار. وسماء القضارف مزينة في كل الأوقات بالغيوم الثقيلة الجميلة التي تبعث في النفس راحة وطمأنينة، لا سيما إن كنت قادمًا إلى المدينة من مكان تحولت أرضه إلى قمامة وتحولت سماؤه –بفعل الحرب– إلى لهيب ودخان كثيف لا ينقطع.

عرفت أن كل هذا العمل طوعي شبابي وما يتعلق باحتياجات النازحين تكفل به بعض أعيان القضارف وأن ليس للحكومة فيه أي دور

وصلنا إلى القضارف، وكانت قد سبقتنا إليها عشرات الأسر الفارة من جحيم الخرطوم. نزلنا من الباص، واخترت تكتكين (ركشتين) لنقلنا –وحقائبنا الصغيرة– صوب قلب المدينة في رحلة للبحث عن فندق للمبيت يومًا أو يومين إلى أن يستبين لنا استقرار في الأيام المقبلة. في الطريق صادفنا مجموعة من الأطفال، على دفعات؛ جميعهم هتفوا وهم يبصروننا: "النازحين جو، يا نازحين". انطباع مزعج انتابني، لكني تجاهلت الأمر حين لمست من أطفالي أنهم لم يفهموا بالضبط ما المقصود بـ"النازحين"، وإن كانوا المقصودين بذلك أم آخرين. انطباع مزعج وشعور ضئيل بالإهانة سرعان ما تلاشيا بعد أن التقيت أصدقاء خلص هناك، وبعد أن تعرفت إلى أهل المدينة، وبعدما زرت بنفسي أحد أكبر معسكرات النازحين في وسط المدينة.

"لا توقظ شرطيًا نائمًا"

"يحدث الآن في القضارف: قوة مشتركة من الأجهزة الأمنية (شرطة النجدة والعمليات) تداهم داخلية عمر بن عبدالعزيز وتطلق الغاز المسيل للدموع، وتطرد النازحين إلى المجهول دون توفير سكن بديل؛ أطفال ونساء وكبار سن الآن في الشارع دون مأوى، ونقل طفل صغير إلى المستشفى وهو بين الحياة والموت بسبب الاختناق بـ(البمبان)".

https://t.me/ultrasudan

أعلاه مقتطف قصير من بيان انتشر يوم أمس الأربعاء على مواقع التواصل الاجتماعي. وقبل أن أعلق على فحوى البيان، أعود مرة أخرى إلى لحظة وصولي إلى القضارف. أذكر جيدًا أن أكثر ما لفتني في أيامي الأولى في هذه المدينة هو الحضور الكثيف لقوات الشرطة، في كل مكان. كنت أجدهم أمامي بأزيائهم المختلفة (الكاكي، والأبيض، والمبرقع)، صورة مفارقة وطريفة كانت تتكون بداخلي كلما رأيتهم أمامي، فأنا قادم من مدينة اختفى الشرطيون من شوارعها وأزقتها تمامًا، بعدما كانوا يحتلون كل شبر منها. طوال ثلاثة أشهر من عمر الحرب، لم أر شرطيًا واحدًا، غياب ملفت وغير معتاد كان يحدث لأكثر السلطات تجبرًا وتكبرًا، اختفاء لم يستوعب مبرراته سكان الخرطوم وقتها، فدونوا عددًا من الوسوم (الهاشتاقات) الساخرة التي انتشرت وقتها على موقعي فيسبوك وإكس (تويتر سابقًا). نعم، سأذكر ما حييت تلك المعاملة اللطيفة التي وجدتها من رئيس مكتب الجوازات بالقضارف، ولا أظنه اختصني بها وحدي، بل كانت أسلوب عمل طبقه على الجميع، لكن في المقابل، الانتشار الشرطي الكثيف والغريب في المدينة، أثار في دواخلي قلقًا ما سرعان ما ترجم إلى واقع مؤلم قبل مغادرتي القضارف وخروجي من السودان عامة.

نازحون في العراء بعد طردهم من مراكز الإيواء
تُرك النازحون في العراء بعد طردهم من دور الإيواء باستخدام "العنف المفرط" بحسب لجان مقاومة القضارف (فيسبوك)

دور الإيواء

قضيت في مدينة القضارف (21) يومًا بالتمام والكمال. وجدت ترحابًا ومحبة واهتمامًا كبيرًا من أصدقاء مقربين من أبناء المدينة، ومن جيران تعرفوا إلي للمرة الأولى، ومثقفين وشعراء وكتاب سمعوا بقدومي إلى المدينة، وهناك أيضًا قابلت رفاقي من النازحين، ورأيت تفاعلهم مع مجتمع المدينة، مشاركة في الأمسيات الثقافية والندوات السياسية والليالي الغنائية؛ وأكثرهم –هؤلاء الرفاق– كانوا ممن يقطنون في دور الإيواء المؤقتة بالمدينة أو ما تعرف بـ(دور النازحين). في أحد الأيام رافقت أحد أصدقائي من أبناء القضارف لزيارة المركز الرئيس للإيواء. أحببت أن أتلمس الأحوال على طبيعتها، فقد كنت محظوظًا قليلًا إذ آواني أحد أقربائي في استراحة مخصصة للموظفين، صادف أن أكثرهم في إجازة لاقتراب عيد الأضحية، في حين غادر البقية المكان مؤقتًا تلطفًا بي وبأسرتي. ذهبت مع صديقي ابن المدينة لزيارة المركز. ووجدت هناك عدد كبيرًا من الأسر، في الحقيقة أكثر من قابلتهم كن من النساء ومعهن أطفالهن. نساء فارات من الحرب لوحدهن، تعبات ومجروحات. تجولت مع صديقي في المركز. شهدت بأم عيني حجم الاهتمام الذي توليه إدارة المأوى للناس في هذا المكان. قدور ضخمة مليئة بالأطعمة. كميات كبيرة من المواد التموينية (زيوت وسكر ودقيق وعدس.. إلخ)، بالإضافة إلى جوالات من الفحم، ونساء منكبات في نشاط على إعداد الطعام. التقيت مسؤولًا طبيًا يتجول باهتمام متفقدًا ضيوف المكان، وأخيرًا التقيت شابًا نحيلًا يبدو عليه الرهق، عرفني به صديقي بوصفه "أحد شباب المدينة" الذين تكفلوا بأمر هذه الدور وباستقبال النازحين إليها، ورصد أحوالهم، وتصنيفهم حسب هذه الحالات وحسب حاجاتهم المرضية والسنية والأسرية؛ وعلمت أن الأولية هناك للنساء ثم المعاقين، وأخيرًا للرجال والشباب. أخبرني الشاب المسؤول أن هذا المركز مركز للطوارئ والاستقبال فقط، وأن هناك أكثر من (30) مركزًا أخرى موزعة في أنحاء المدينة (مدارس، وداخليات، وجامعات، وبيوت تبرع بها محسنون). عرفت من الشاب "ابن القضارف" أن كل هذا العمل طوعي شبابي، وما يتعلق بالإطعام والعلاج ومتابعة النساء الحوامل وكل احتياجات النازحين تكفل به بعض أعيان المدينة والخيرون من أبنائها؛ وأن ليس للحكومة –حكومة الولاية– أي دور في كل هذا البهاء السوداني الخريفي الأخضر.

الاكتواء بالنار مرتين

لم نجلس مع ذلك الشاب النحيل النشط كثيرًا في مركز الإيواء الرئيس بقلب مدينة القضارف. كان عجلًا، فعليه متابعة شؤون كثيرة متعلقة ببقية الدور المنتشرة في المدينة، كما عليه متابعة حالات صحية طارئة لنساء حوامل وأخريات وصلن للتو من أرض الحرب. خرجت من المكان على وعد أن أعود مرة أخرى وأنا أكثر ترتيبًا، لأدون الإفادات وأسجلها بطريقة موثقة ودقيقة، لإعداد لتقرير صحفي متكامل عن هذا العمل الكبير الذي تكفل به دون مَن أو أذى أبناء هذه المدينة المعطاءة. ماذا حدث؟ لم أعد قط إلى هناك، ليس لأني خرجت من المدينة، أو لأن الشاب النحيل لم يف بوعده ويستقبلني ليزودني بالمعلومات. ما حدث أن المكان نفسه لم يعد موجودًا، ولا أعني هنا المكان الطوبي الأسمنتي الإيوائي، بل أعني الناس وأطفالهم وحالهم والوجع الذي يظلل وجوههم أجمعين. قلت إن إحساسًا غير مريح انتابني لمرأى الانتشار الشرطي الكثيف بالمدينة. ربما بعد يوم فقط من زيارتي إلى مركز الإيواء الرئيس، داهمت قوة كبيرة من الأجهزة الأمنية المركز وفضته بالقوة، وأجبرت النازحين على النزوح مرة أخرى والتشتت بين دور الإيواء المختلفة دون تخطيط أو تدبير. وقتها شاع في المدينة أن متسللين من الدعم السريع هم السبب، فإحدى المدونات كتبت منشورًا على فيسبوك أشارت فيه إلى تسللهم إلى المدينة وأنهم يختبئون داخل دور الإيواء، وأن هذا هو السبب الرئيس لفض المكان! وشاع أيضًا أن متسللين لا أخلاقيين دخلوا إلى الدور بنية الإفساد! وشاع ما شاع من تبريرات فطيرة جميعها تتضاءل أمام بشاعة الفعل وإجراميته ولا إنسانيته. خرجت من المدينة ولم أتوقع أن يتكرر الأمر مرة أخرى بعد ثلاثة أشهر، وبصورة أقسى وأمر.

أي والٍ هذا الذي تنام رعيته على مقربة منه في الشارع جزعة ومعتلة وجائعة، وهو يرفل في نعيم الدفء والشبع والأمان والراحة

أشار البيان السابق إلى أن طرد النازحين من المبني السكني (الداخلية)، كان بأمر مباشر من والي ولاية القضارف محمد عبدالرحمن محجوب. أي والٍ هذا الذي تنام رعيته على مقربة منه في الشارع، جزعة ومعتلة وجائعة، في حين يرفل هو في نعيم الدفء والشبع والأمان والراحة.. أم أن (النازحين) خارج أطر هذه الرعاية؟