29-سبتمبر-2019

من فعالية خاصة في الأمم المتحدة شاركت بها كلوني إلى جانب حمدوك (تويتر)

تداولت وسائط التواصل الاجتماعي في السودان بشكل واسع التعليق على صورة المحامية والناشطة الحقوقية أمل علم الدين، زوجة النجم السينمائي جورج كلوني وهي تركز نظراتها على رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في السودان عبد الله حمدوك أثناء إلقاء خطابه في الجلسة الخاصة بمجلس حقوق الإنسان، ضمن دورة الانعقاد "74" للجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك ختام الأسبوع الماضي. البعض ذهب سريعًا لتفسيرات تبسيطية أو حتى تسطيحية، بأن نظرات علم الدين كانت نظرات إعجاب بالرجل، وإن كان أكثر من تناولوا هذا الحدث بالتعليق غلب عليهم الجانب الفكاهي المازح، إلا أنهم جميعها فات عليهم ما هو أهم وأعمق في تلك النظرة، ما هو أبعد من نظرة امرأة لرجل، فبعيدًا عن كون أمل علم الدين زوجة أحد من يُعتبر أوسم الرجال في العالم، جورج كلوني، إلا أن علم الدين هي ليست أي امرأة، أنا لا أتحدث عن جمالها أو اقترانها بنجم هوليود الأسطورة، بل أتحدث عن مساهمتها هي نفسها في مناصرة قضايا النساء من جميع أنحاء العالم، في معركة المساواة ورفع الظلم والأجر المتساوي ومحاربة العنصرية، وسجلها الحقوقي الباهر في هذا الجانب يقف شاهدًا على دورها الرائد، وإن كانت هي امرأة فإذاً هي ليست أي امرأة كما أسلفت. وأنا امرأة، اسألوني إذًا إلى ما كانت تنظر "علم الدين"؟ أقل لكم.

كانت أمل علم الدين تنظر إلى عشرات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين من ثوار السودان، الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل استعادة وطنهم

هذه المرأة حينما كانت تنظر بإعجاب إلى الرجل الجالس إلى يسارها وهو يتحدث، كانت تنظر إلى عشرات الشهداء وآلاف الجرحى والمصابين من ثوار السودان، الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل استعادة وطنهم. كانت تنظر إلى وطن بُعث من بين الرماد، بفضل عزيمة نسائه ورجاله، وطن كانت مشاركة المرأة في ثورته هي الحدث الأبرز واللافت، برغم عقود القمع والتكميم وهضم الحقوق الذي عانته المرأة السودانية في حقبة النظام البائد.

تلك المرأة كانت تنظر إلى عظمة شعب بأكمله، لا إلى شخص واحد، شعب أصر على أن يُذكر شعوب المنطقة والعالم، أن الأوطان يمكن أن تنهض وهي أشد وأقوى من بين نيران حروبها وتلملم أشلاءها لتداوي جراحها وتواصل المسير، كانت "علم الدين" تنظر بإعجاب إلى شعب خرج أعزلَ في وجه أحد أقوى أنظمة البطش في المنطقة والعالم، وسلاحه الوحيد كان هو السلمية والثبات المهيب. 

اقرأ/ي أيضًا: السودانيون وعبء الحرية الثقيل

تلك المرأة لم تكن تنظر إلى حمدوك فقط كرئيس قادم من بلد منحه شعبه تفويضًا كبيرًا وعقد عليه آمالًا عراض، هي كانت تنظر إليه كمليونية ضخمة من النساء والرجال، تخطت متاريس القوات الأمنية ورصاص مليشيات كتائب الظل الحكومية وقمع "الكجر"

نعم هي بكل تأكيد لم تسمع بشاعر السودان الراحل محمد الحسن سالم حميد، وهو يتغزل في جسارة المرأة السودانية:

 

"بناتك حجر في عيون الكجر

بنيتًا جسورة ووليدًا ضكر"

 

لم تكن تعرف ذلك، لكنها كانت تعلم علم اليقين أن هذا الجالس إلى جوارها لم يكن ليجلس جلسته المرتاحة تلك، وبكل اطمئنان ليبشر العالم بانضمام إحدى أممه التي تخلفت طويلًا، ولم يكن ليلقي خطابه الملهم ذاك، لولا نضال المرأة السودانية الشاق، ومساهمتها الحاسمة في ثورة ديسمبر المجيدة 2018.

كانت أمل علم الدين تنظر إلى مليونيات من الدم والدموع والثبات طيلة وخمسة أشهر من الاعتقالات والشهداء والجرحى والمعتقلين والتعذيب في بيوت الأشباح والاختفاء القسري لنساء ورجال الثورة السودانية، في محاولتهم فقط الوصول إلى محيط القيادة العامة للجيش السوداني، ليختبروه ويرموا الكرة في ملعبه، ويمنحوه فرصة أن يسطر اسمه في التاريخ. كانت تنظر إلى الملايين من المخذولين الذي لملموا أشلاءهم بعد حادثة فض اعتصام القيادة العامة وغدر وخذلان رجال المجلس العسكري، إصرار تلك الملايين على المضي قدمًا بثورتهم بذات سلميتها التي حيرت العقول.

تلك المرأة كانت تنظر لحلم شعب كامل يجسده خطاب ثابت ينبض بالأمل ويمثل وعي وتطلعات بناته وأبنائه في "الحرية والسلام والعدالة" داخل مقر الامم المتحدة ومجلسها الدولي. لقد كانت تنظر إلى نضال شعب وانتفاضة شباب لم يزده ارتفاع أعداد الشهداء والمفقودين والجرحى، وارتسام السياط في أجساد بناته وأبنائه إلا إصرارًا على قضيته ومضاءً لعزمه وعلوًا في همته، مؤمنًا أنه مهما طال به المشوار فهو لا محالة بالغ غاياته في التحرر والانعتاق من الاستبداد.

اقرأ/ي أيضًا: صورة المرأة السودانيّة في رسومات آلاء ساتر

كانت علم الدين تنظر إلى كل ذلك، وكانت تنظر أيضًا إلى حضارة سبعة آلاف من السنين والنضال الشاق للمرأة السودانية، لم تنس فيه المرأة السودانية برغم أساطير الهوس الديني، أنها سليلة "الكنداكات" اللائي كن يجلسن على قدم المساواة في كرسي الحكم مع أزواجهن وأبنائهن الملوك.

أمل علم الدين في ذلك اليوم كانت تنظر إلى السودان بكل مكوناته المتنافرة، لغويًا واجتماعيًا وسياسيًا، كيف قاوم من كانوا ينتوون سرقة الفرحة منه بعد أن نجحوا في سرقتها من شعوب سوريا واليمن وليبيا ومصر والبحرين، ولعلها كانت تتساءل كيف استطاع هذا الشعب أن يرد الأمل والاعتبار إلى الشعوب العربية ويوقد جذوة ربيعها من جديد، بعد أن ظنت الثورة المضادة أنها اطفأت نارها مرة وإلى الأبد. ولربما أدركت أمل علم الدين أن الرسالة الاكثر وضوحاً والتي حملتها الثورة السودانية لشعوب المنطقة، هي أن الربيع العربي لن يموت وأن ما حدث في الخرطوم يمكن أن يحدث مرارًا وتكرارًا في جميع عواصم المنطقة. وهو بلا شك ليس فقط اندلاعًا لاحتجاجات وثورات أو خلعًا لدكتاتورِ هنا وإسقاط لمستبد هناك، بل هو وبشكل أكيد حالة ثورة يقاس نجاحها بقدره هذه الشعوب على تقوية تماسكها في مواجهة التسلط والقهر، عبر الإيمان الكامل بأدوار متساوية للمرأة والرجل في تحدي سلطة الاستبداد القائمة، ورسم لوحة المقاومة الباسلة لنساء ورجال لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بمقدار تضحيته وتقدمه للصفوف.

كان الاهتمام بالنموذج السوداني من الثورة الذي استطاع أن يبلغ بداية آماله متحدياً كل ما حاق بالربيع العربي من ألاعيب ومفخخات وحقول ألغام ليثبت أن جذوة الحرية والكرامة لا تموت!

تلك هي كانت الرسالة التي خرجت من السودان وهو ما كانت تنظر إليه أمل علم الدين بإعجاب في ذلك اليوم؛ النموذج السوداني من الثورة الذي استطاع أن يبلغ بداية آماله متحدياً كل ما حاق بالربيع العربي من ألاعيب ومفخخات وحقول ألغام ليثبت أن جذوة الحرية والكرامة لا تموت طالما آمنت الشعوب بحقها في تقرير مستقبلها ورسم مساراته دون إرغام من أحد أو إملاء.

الآن هل علمتم لماذا كانت أمل علم الدين تطيل النظر إلى حمدوك بذلك الاهتمام؟ اسألوني أقل لكم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عبدالله حمدوك.. من هو رجل المرحلة المقبلة في السودان؟

جداريات الثورة السودانية.. الخرطوم تحتفي بشهدائها