21-أكتوبر-2015

الأمن السوداني باق على قمعه لكل تحرك ضد البشير (أ.ف.ب)

في عام 1955، قبل أشهر من الإعلان الرسمي لاستقلال السودان (1956)، اندلعت الحرب الأهلية الأولى بين الجنوب والشمال. وبعد ديمقراطية قصيرة للغاية لم تكمل ثلاث سنوات، صعد الجيش بقيادة الجنرال إبراهيم عبود، إلى السلطة، في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1958، فعطل الدستور، وحلّ البرلمان، والأحزاب السياسية، قبل أن يرفع وتيرة الحرب في الجنوب مع تبني سياسة التعريب التي فاقمت الأزمة. لكن بعد ست سنوات، في الحادي والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 1964، أطاحت حكم الجنرالات ثورة شعبية قادها طلاب جامعة الخرطوم، عقب مقتل أحدهم برصاص الشرطة، في تفريق ندوة سياسية مناوئة لسياسة الحكومة تجاه حرب الجنوب، وهي الثورة التي يفاخر بها السودانيون العالم حتى اليوم، كونها سابقة على غيرها في المنطقة، بل إنها سبقت حتى "ربيع براغ" وانتفاضة الطلاب في أوروبا (1968) مع اختلاف طبيعة كل منها بالطبع.

هناك سياسيون ومواطنون كثر يعصف بهم الحنين حتى اليوم، لإسقاط حكم البشير، بذات طريقة أكتوبر

ربما كانت هذه الخلفية مختزلة إلى حد الإخلال في وصف ما حدث، كونها لم تصطحب معها تعقيدات المشهد السياسي آنذاك، خصوصًا أن الجنرالات لم "ينقلبوا" على السلطة المدنية، بل سُلِّم الحكم إليهم، يدًا بيد، من رئيس الوزراء وقتها "عبد الله خليل"، نكاية في خصومه السياسيين. لكن بإمكاننا هنا محاولة النظر من جديد إلى تلك الثورة التي أسهمت، ربما أكثر من الاستقلال نفسه، في رسم ملامح الشخصية السودانية، فأكتوبر تحوز الرصيد الأكبر من الأدبيات الثورية، شعرًا وغناء وبحثًا وكتابة، وتعدّ حتى اليوم تجربة ثرية بالدروس، بل إن السياسيين ومواطنين كثر يعصف بهم الحنين حتى اليوم، لإسقاط حكم البشير، بذات طريقة أكتوبر، وهو حنين يتجاهل سياقات الزمن والواقع الاجتماعي كما نرى، فلا طريق الآن لاستنساخ تلك الثورة التي يتنازع أبوّتها اليسار بنقاباته ويسارية الشهيد الأول الذي تسبب مقتله في القفز بالأحداث لتصبح ثورة، وبين الإسلاميين الذين كان عرّابهم "حسن الترابي" نجم الندوة التي أحدثت المواجهة مع السلطة.


اقرأ/ي أيضًا: نهاية السودان

يظن محمد الخاتم، وهو أحد الشباب القلائل الذين لم يهجروا العمل السياسي بعد، أن أكتوبر "لم تكن ثورة.. ليس أكاديميًا على الأقل"، ويصفها المحلل السياسي الشاب بأنها "نوع من الرفض لم يصاحبه وعي بطبيعة النظام العسكري فهو فقط لم يلب بعض المطالب الشعبية. ما أسقط نظام عبود أنه لم يستطع بناء تحالفات".

التحالفات التي أشار إليها الخاتم، برز "وجهها القبيح" بعد إطاحة الجنرالات، حين ضغطت الأحزاب التقليدية على رئيس الوزراء الانتقالي "سر الختم الخليفة" لتمرير حكومة جديدة تسيطر عليها الأحزاب، بدل الحكومة الأولى التي تكونت من ممثلي النقابات والاتحادات العمالية اليسارية، في وضع يراه كثيرون "اختطافًا للثورة" أو "انتكاسة" كما يسميها محمود الدنعو، الصحفي المهتم بالشؤون الدولية، "كان الأمل أن تفضي أكتوبر إلى التحول الديمقراطي المنشود، إلا أنها أطفئت بسبب الأحزاب التي تسورت جدرانها وجدران ثورات شعبية أخرى بليل، وبدلًا من نقل البلاد إلى مسار الديمقراطية تقوم بنحو مخادع بتوجيه دفة القيادة لإعادة إنتاج الأزمة" يقول محمود. وعلى عكس ما يراه بأن أكتوبر مثل الثورات التي تلتها "خُطفت من قبل نفس الذين قامت الثورة ضدهم"؛ يظن الخاتم أنها "لم تختطف لأنه لم يكن أصلًا ثمة هدف واضح لها لانتفاء الوعي بالصراع على مستواه الاجتماعي الأيديولوجي وقتها". وهو رأي بناه على فشلها في تجذير بنية تعددية عصية على الاقتلاع، إذ أعقبتها ديمقراطية قصيرة "كالعادة" قبل أن يقفز العسكر من جديد للسلطة في أيار/مايو 1969.

يشيع الحديث عن مكاسب لأكتوبر في السودان، في مجالات عدة، أبرزها المرأة، التي تحسن وضعها السياسي والاجتماعي كثيرًا. لكن على المستوى السياسي يبدو التشاؤم حاضرًا، وهو ما يعبر عنه الخاتم بـ"الخسارات" التي يجملها لـ"ألترا صوت" في "الترسيخ لإيمان بأن استقرار السودان ملازم للحكم العسكري بسبب فشل الحكومات الحزبية اللاحقة، وبعد خمسين عامًا لا يزال الوعي مفقودًا بأهمية النظام المدني شعبيًا"، باذلاً ملاحظة أن نظام الجنرال عبود "شهد السودان في عهده أكبر تنمية اقتصادية"، وهو ما يظل صحيحًا برأيي إن استثنينا ما أنجزه الإنجليز في سني حكمهم البلاد.

وإن كانت أكتوبر بعد أكثر من نصف قرن لم تحقق الشعارات التي أتت بها وعلى رأسها حل مشكلة الجنوب الذي انفصل في 2011، يبقى التنازع حول ملكيتها غير ذي معنى كما يرى الخاتم، إلا أنه لا يمكن نكران تأثيرها العاطفي في المتخيَّل الجمعي للسودانيين، حتى يومنا هذا، ففي انتفاضة نيسان/أبريل 1985 الشعبية التي أطاحت حكم المشير جعفر نميري، بدا واضحًا أن هناك نزوعًا لاعتبارها "أكتوبر أخرى" كما وصفتها الأغاني، وكأن كل ثورة أو تخطيط لثورة لا يخرج من أسر تلك التي أشعلتها دماء الطالب القتيل "أحمد القرشي طه" في ليلة بعيدة من أيام طفولة دولة السودان الحديثة.

اقرأ/ي أيضًا: أن تكون عربيًا في السودان