10-مايو-2020

المخلو ع البشير (الشاهد نيوز)

"القوة تشجع على الفساد، والقوة المطلقة، مفسدة مطلقًا".

لورد جون أكتون في رسالة شهيرة للأسقف مانديل كريتون العام 1887.


لا يمر أسبوعُ عادة، الإ وتخرج لجنة تفكيك التمكين وإزالة نظام ٣٠ حزيران/يونيو ١٩٨٩، في مؤتمراتها الصحفية الدورية، بالعجب العجاب عن فساد النظام البائد الذي حكم السودان لثلاثين عامًا بالحديد والنار، وسام الناس العذاب والهوان في تشبثه بالسلطة.

تنوعت أشكال التعدي على المال العام والأراضي، واستغلال النفوذ والسلطة والقربى مع رموز النظام، وعلى راسهم الرئيس المخلوع عمر البشير

قامت اللجنة المذكورة أعلاه حتى الآن بمراجعة نذرٍ يسير من ملفات قادة العهد البائد، وكان ما تكشف لها مصدرًا لذهول أهل السودان كافة من حجم الفساد، وتنوع أشكال التعدي على المال العام والأراضي، واستغلال النفوذ والسلطة والقربى مع رموز النظام، وعلى راسهم الرئيس المخلوع عمر البشير، وقادة نظام حكمه، بشكل ليس له مثيل في تاريخ الدولة السودانية الحديثة.

اقرا/ي أيضًا: ما الذي يصفح عنه الصادق سمل؟

لقد تكشف زيف الشعارات وتهاوت، وتبدت الحقيقة عارية لنظام حكم أذل الناس باسم الدين وحمايته، ومحاربة الفاسدين، والتشدق بشعارات وعبارات الطهرانية، ومزاعم تزكية القوي الأمين.

طالب السودانيون لسنوات طوال بسيادة حكم القانون، وبالمحاسبة على الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، وضجت الصحف والمجالس كثيرًا بروايات قضايا الفساد وتداولتها الألسن، لكن لم يكن أحد يتصور إن أحد منسوبي النظام البائد يمكن أن يستولي على ما يزيد عن (150) ألف فدان من الأراضي، وإن آخرًا يحوز على ما يزيد عن (50) قطعة أرض في حي سكني واحد، وإن أسرة المخلوع البشير نفسه قد احتكرت لنفسها حيًا راقيًا من أحياء الدرجة الأولى، تملكت الأراضي فيه وقسمتها بين أفرادها، بما في ذلك الأطفال.

انتجت الدولة الشمولية الديكتاتورية هذا الواقع، فهي دولة الحزب التي قامت على أهل الولاء والثقة عوضًا عن الكفاءة، فأطاحت بمئات الآلاف من العاملين بجهاز الدولة وأبدلتهم بعناصر حزبها، وغالبهم ممن لا يمتلكون الخبرة ولا الكفاءة، فأدى ذلك لتراجع كبير في مستوى الخدمة المدنية، وانهيار لمنظومة القيم التي ظلت تحكمها، وقاد لمفارقتها للقوانين واللوائح والنظم في غالب الوزارات والمؤسسات التي انتشر فيها البدريين هؤلاء، مسنودين بقوة التنظيم السياسي وأجواء الترهيب والترغيب والاستقطاب التي قاموا بفرضها.

ولعله يكون فيما يتم الكشف عنه من فضائح النهب والفساد المنظم الذي شمل طاقم النظام القيادي، ردًا على أنصاره الذين ظلوا منذ سقوط النظام يحيكون المؤامرات للوضع الجديد، ويهددون ويتوعدون ويبذلون قصارى جهدهم لتجميع قدراتهم وطاقتهم للمواجهة، وفي ذلك مدعاة للسخرية، فأي نظام يريدون أن يعيدوا إليه أهل السودان الذين انتصروا بوحدتهم الغراء على الموت والرصاص والمليشيات المنفلتة التي ظلت لعقود تحمي هذه السلطة الفاسدة؟

اقرأ/ي أيضًا: تصدعات فصيل مشار.. أزمة داخلية أم عبث متعمد؟

كان الشعار الأبرز لثورة كانون الأول/ديسمبر الظافرة "حرية، سلام، وعدالة"، وهو شعار صدع به أهل السودان خلال هبة أيلول/سبتمبر ٢٠١٣، قبل ست سنوات من اندلاع ثورتهم الحاسمة التي اسقطت النظام، وهو شعار يعبر عن أشواق للقيم التي حرم منها الاستبداد الشعب السوداني، وكانت آخر سنوات النظام بمثابة الإضاءة الكاشفة التي سلطت الضوء على فساد السلطة وكان الناس يتناقلون أخبار التعدي على المال العام في مجالس الأفراح والأتراح، وقديمًا قيل "الخرطوم مدينة لا تعرف الأسرار".

ولكن لم يدر بخلد أيًا منهم أن الفساد بلغ هذه الدرجات العليا، لقد هجم أهل الإنقاذ على المال العام واستباحوا الأراضي والعقارات، ولم يكن ذلك ليحدث لولا انعدام الرقابة والشفافية والمحاسبة، وقد ظل رموز النظام وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير ونائبه الأسبق علي عثمان محمد طه يسبغون الحماية على المفسدين إذ كلما نشر الإعلام وقائع فساد سارعا لنفي التهم عوضًا عن التحقيق حولها، واتخاذ الإجراءات القانونية بحق مرتكبيها، وطالبوا بالمزيد من المعلومات. ثم كان نصيب المفسدين مزيدًا من الترقي في دوائر السلطة حتى زهد الناس واستيئسوا من العدالة والمحاسبة وصيانة المال العام.

ولا عجب فقد اعتبر المخلوع انهيار بناية جامعة الرباط الوطني في شباط/فبراير ٢٠٠٥ على عهد صديقه وزير الداخلية عبد الرحيم محمد حسين وقتها أمرًا طبيعيًا، طالما هو يعمل وشيد عشرات المباني، معلقًا على استقالته التي أجبر عليها بسبب ضغط الرأي العام بأنها مجرد "استراحة محارب"، وكافأه من بعد بمنصب وزير الدفاع!

وقد كشفت لجنة تفكيك التمكين حتى الأن عن فساد المؤسسات والجمعيات ذات الصبغة الدينية، وكبار قيادات الدولة الذين استباحوا الأراضي والعقارات، كما فضحت فساد الأسرة الرئاسية وعلى راسها عميدها الرئيس المخلوع عمر البشير وأخوته على رأسهم عبد الله البشير الذي "فات الكبار والقدرو" ولا يماثله إلا أبناء زعماء المافيا المدللين، فقد تمددت شركاته فهو يعمل في كل مجال، وينهل المال العام مثل ما ينهل العطشى الماء القراح. هلعًا وجزعًا ولا يرتوون. علاوة على أقاربهم وأنسبائهم، مثل نور الدائم إبراهيم محمد عبد الله، الذي حاز أراضٍ لا تعد ولا تحصى، وسابق الزمن لتشييد إمبراطورية، وغيره من أركان هذه الأسرة الذين نالوا الأراضي في أغلى أحياء الخرطوم. مكافأة لهم على الانتماء للأسرة الرئاسية!

كما كشفت تقصيات اللجنة عن طبيعة التحولات التي دفعت بضابط بجهاز الأمن مثل عبد الباسط حمزة، للتحول إلى رجل أعمال يمتلك الشركات والفنادق والعقارات، ويحوز على أكثر من (١٠٠) الف فدان من الأراضي في الخرطوم والشمالية. وعن نماذج من قادة الحزب الحاكم منهم من تقلب في المناصب من وزير لوالي، مثل الحاج عطا المنان الذي حاز أكثر من (٢٤) قطعة أرض في مناطق مختلفة من العاصمة الخرطوم، أما ضابط الشرطة اللواء محمد نجيب وزوجه، فقد تخطيًا الأرقام القياسية في حيازة الأراضي، فما تنافسهما فيها إلا ملكة بريطانيا العظمى!

بالإضافة للمنظمات التي عرفت بالانتماء للمشروع الحضاري والحركة الإسلامية، وما نالته من عطايا تمثلت في الآف الأفدنة والمباني والمنشآت، وكأن المال العام عندها نهبًا مستباحًا.

لقد كشفت لجنة تفكيك التمكين ما كان سرًا، فما أفدحها من فضيحة وما أقبحها من فعال. وما أصغر النفوس التي بطشت بأهل السودان وانتهبت موارد البلاد

لقد فتح غياب الرقابة والشفافية وأساسيات الحكم الراشد

الباب لكل موبقات الفساد، من تلاعب واستغلال النفوذ والسلطة، ودفع إحساس عدم الأمان والجشع والبنية النفسية للهلع والخوف، وعدم الشعور بالأمان وعدم الاكتفاء، عصبة الإنقاذ للنهب واستباحة المال العام، والانخراط في الفساد المنظم الذي يجد مثاله وحمايته من أعلى مراقي السلطة، وهي التي سبقتهم وفاقتهم في الفساد والإجرام. وكشفت لجنة تفكيك التمكين ما كان مجرد همسات في ليل الخرطوم. فما أفدحها من فضيحة وما أقبحها من فعال. وما أصغر النفوس التي بطشت بأهل السودان وانتهبت موارد البلاد وثرواتها.

اقرأ/ي أيضًا

تخليص الإبريز في تلخيص باريز.. والكورونا والأفندية

الفيروس النيوليبرالي المُعوَّلم