30-مارس-2020

بورتريه رفاعة الطهطاوي (العربي الجديد)

بحثًا عن منجًى من أخبار فيروس كورونا، ومن ملله وحظر تجواله، ومن القلق والاكتئاب العالمي الذي أحدثه هذا الوباء ثقيل الظل، قررت أن أبحث في مكتبتي عن أكثر الكتب انقطاعًا عن عالم اليوم، كتاب يستحيل أن أجد فيه ما يذكرني بكورونا أو بالسودان، وباحتضار ثورته وموتها الوشيك. من بين كثير من الخيارات، استقر عزمي على كتاب  "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة رافع الطهطاوي.

مع أن الطهطاوي هو مؤسس التعليم الحديث في السودان، إلا أن السودانيين لا يذكرونه إلا باعتباره الرجل الذي هجاهم وأقذع في هجائهم

والطهطاوي، مبصر يصف قوس قزح لمجموعة من العميان. كيف يا ترى فهم من قرأ الكتاب من أهل مصر أيام الطهطاوي وصفه لـ"التياتر" و"الاسبكتاكل" "الأكدمه" و"الأوبره" ..الخ؟ عندما أفكر في هذا السؤال أتخيل معاناة ابن رشد – كما تخيلها بورخيس – وهو يحاول أن يصف المسرح. وأصل الحكاية أن ترجمة اسحق بن حنين لكلمتي "تراجيديا وكوميديا" كانت "الهجاء والمدح" على الترتيب.

اقرأ/ي أيضًاالسودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية

هل كان ابن حنين يعرف معنى التراجيديا والكوميديا فعلًا؟ لكنه اختار أن يقرب الأمر للعرب الذين لا عهد لهم بهذا الفن، بافتراض أنهم لن يستطيعوا التثبت من ترجمته قطعًا؟ أم تراه كان يعتقد فعلًا أن الكوميديا هي المدح عينه كما يفهمه العرب؟ ومن الطريف الإشارة إلى أن الكتاب الذي اخترته هربًا من كورونا، عاد ليذكرني بها مع وصف الطهطاوي لـ"الكرنتينة" أو الحجر الصحي، الذي أخضع له وفدهم في مارسيليا فور رسو سفينتهم.

قسم الطهطاوي المعارف والعلوم التي ينبغي نقلها من فرنسا لمصر وبلدان المسلمين إلى خمسة عشر فنًا، تشمل العلوم النظرية والتطبيقية والتقنيات وأيضًا الفنون، التي وضعها في المرتبة الرابعة عشر وأسماها "فن النقاشة، وفروعها، ودفن الطباعة، وفن حفر الأحجار ونقشها، ونحوها" لم يقل "التاتر" ولا "الآلاتية" ولا "الأوبره" طبعًا، رغم ما دسه دسًا من التنويه بفضلها في كتابه، فهذا العبقري الذي ابتعث أصلًا كمرشد ديني لبعثة الأفندية، كان شديد الحذر والمحافظة، وذا حس تاريخي وسياسي عالي. وبالنظر إلى لائحة العلوم الخمسة عشر التي طالب بنقلها نستطيع أن نقول إن وصايا الطهطاوي مغدورة حتى الآن بامتياز.

العلم الأول الذي طالب الطهطاوي بنقله كان "علم تدبير الأمور الملكية"، وتوقف طويلًا وهو يصف بانبهار فكرة حقوق الإنسان، وسيادة حكم القانون، والفصل بين السلطات. ذاكرًا بإجلال كتاب "روح الشرائع" لمونتسيكيو ضمن الكتب التي نظر فيها واستفاد منها. وواصفًا فكرة الدستور "الشرطة" متحدثًا بإسهاب عن روح العدل والإنصاف التي تحكم فرنسا، وعن الحرية الدينية وحرية التعبير. دون أن ينسى وهو العالم الأزهري الذي جلس للفتوى قبل بلوغه الخامسة والعشرين، أن يذكرفي النهاية -من وراء قلبه كما يقول المصريون- فضل تطبيق الشريعة، بعد أن قدم مرافعة عن دور العدل في في عمار البلدان وازدهار الممالك وإن لم يكن مقيدًا بالنواميس الشرعية.

في السودان، لا يحظى الطهطاوي بالكثير من الاحترام، ولا حتى بنصف الاهتمام الذي يحظى به من هم أقل شأنًا منه من رجال عصر النهضة العربية -الذي ابتدره هو بلا منازع- حتى في الكتب المدرسية التي تدرس سير رواد الإصلاح في الوطن العربي، نجدهم أدرجوا الأفغاني ومحمد بن عبدالوهاب، والتونسي ورشيد رضا..الخ، وأهملوا الطهطاوي كأنه لم يكن. فمع أن الطهطاوي هو مؤسس التعليم الحديث في السودان، بإدارته لأول مدرسة أولية فيه، إلا أن السودانيين لا يذكرونه إلا باعتباره الرجل الذي هجاهم وأقذع في هجائهم.

"وما السودان قط مقام مثلى ولا سلماي فيه ولا سعاد

بها ريح السموم يُشم منه زفير لظىً فلا يطفيه واد

عواصفها صباحًا أو مساءً دواماً فى اضطراب واطّراد

ونصف القوم أكثره وحوش وبعض القوم أشبه بالجماد

فلا تعجب إذا طبخوا خليطاً بمخ العظم مع صافى الرماد

ولطخُ الدُهن فى بدنٍ وشعرٍ كدهن الإبل من جرب القُراد

ويضرب بالسياط الزوج حتى يقال أخو بناتٍ فى الجِلاد

ولولا البعض من عرب لكانوا سواداً فى سوادٍ فى سواد"

اقرأ/ي أيضًا: حوار | حاتم إلياس.. ثورة على تراث البوليس الثقافي

في هذه الأبيات يتذمر الطهطاوي من طقس ما سيصير لاحقًا "جمهورية السودان" ومن بعض عاداتها، ومن مستوى التمدن في ذلك الوقت. لكن المثقفين (الأفندية) مصابون بحساسية مفرطة أشبه بجنون الارتياب أو عقدة الاضطهاد، تجاه كل نقد خاصة من عربي، يطعن في عروبتهم، و"يتهمهم" بالسواد. ولو أنهم قرأوا كتب الطهطاوي لوجدوا فيها أضعاف هذا الذم لأقباط مصر الذين اتهمهم بكل صفة خسيسة ومرذولة، بل وحملهم وزر انحطاط مصر الحضاري!

ثم إن الطهطاوي جاء إلى السودان منفيًا ومغضوبًا عليه يمزقه الإحساس بالخيبة والضياع، بعد أن رأى مشروعه النهضوي ينهار أمامه في عهد الخديو الرجعي عباس حلمي، الذي أغلق مدرسته "مدرسة الألسن" وأوقف صحيفته الثقافية ونفاه للسودان. وعاش الطهطاوي قبل "اكتشاف العنصرية" وتحريمها وتجريمها.

والمثقفون السودانيون الذين وضعوا مناهج التعليم وأغفلوا كل إشارة لدور الطهطاوي النهضوي، هم أنفسهم من مأسسوا العنصرية داخل بلدهم، وكرسوا للتفرقة بين أبنائه، حتى أثمرت مساعيهم غير الكريمة انفصال جنوب السودان، وحروب أهلية ومليشيات قبلية ودولة فاشلة عاجزة عن الموت وعن الحياة معًا.

 يتعامل الطهطاوي مع "الفرنسيس" بلباقة وحذر و"نسبية ثقافية"، ومع السودانيين الذين ألقي به إليهم منفيًا بتأفف واستعلاء

ما يعنيني بخصوص هجاء الطهطاوي للسودان والسودانيين، هو مقارنة هجائه بتسامحه المثير للعجب مع الفرنسيين، ففي كتابه ينحو الطهطاوي في مقارنة عادات المصريين والفرنسيين منحًى أقرب ما يكون إلى "النسبية الثقافية" عدا في بعض الأمور الدينية والتابوهات الثقافية القارة. بل حتى هذه تجده ينحاز فيها أحيانًا للفرنسيين ويبرر وجه تسامحه معها، وإليكم هذا الاقتباس المثير للاهتمام وهو يصف رقصات الفالس: "ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من العيافة والشلبنة لا من الفسق؛ فلذلك كان دائمًا غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر، فإنه من خصوصيات النساء لأنه لتهييج الشهوات، فأما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبدًا".

عندما يتعامل الطهطاوي مع "الفرنسيس" الذين جاءهم تلميذًا في الصف الأول، يتعامل بلباقة وحذر و"نسبية ثقافية"، وعندما يتعامل مع السودانيين الذين ألقي به إليهم منفيًا فإنه يتعامل بتأفف واستعلاء. هذا هو قانون القوة، نفس القانون الذين جعل المثقفين السودانيين المتذمرين من استعلاء الطهطاوي عليهم، يستعلون على شعوب السودان وثقافاته "الأخرى". ولا بد أن أحدهم يقرأ الآن في الحجر المنزلي بإيطاليا أو فرنسا في تفسير هيغل  للتاريخ الذي قال فيه عن انحطاط الجنس الأصفر ما لم يقله مالك في الخمر، بينما الطائرات الصينية تنقل المساعدات الطبية لـ"بؤساء أوروبا" وتدشن عصرًا جديدًا من جدل الشرق والغرب. الصين التي تحدث عنها هيغل ليست الصين اليوم، لكن ما حجم الفرق بين السودان الذي هجاه الطهطاوي وسودان اليوم؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

السودانيون وعبء الحرية الثقيل

الأمين علي مدني.. الشاعر الحر ونصير تعليم المرأة