30-مارس-2020

ممرضة في استراحة أثناء فترة مناوبتها في مستشفي بإيطاليا (Getty)

لم تكن الأزمة المالية التي ضربت النظام الرأسمالي المعوَّلم ما بين (2007-2008) في عقر داره العنيدة العتيدة أزمة عارضة تمُيت وتحيي في آنٍ واحد النظام من رَحَى تناقضاته البنيوية، ولكنها جسَّدت عمق الأزمة النظامية التي تكتنف بنية المجتمعات الرأسمالية ما بعد الصناعية. آنذاك، انخرطت حكومات طبقة الأثرياء والسياسيين الفاسدين في إنقاذ البنوك المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي، منتهجة ما يُعرف بسياسية "التيَّسير/التخفيف الكمي" تاركةً ضحايا فقاعة الرهون العقارية يواجهون مصيرهم لوحدهم بعد أن فقدوا كل ما يملكون وينتظرهم مستقبل مجهول بلا مدخرات وبلا منزل أو مأوى.

إذا كانت العوَّلمة قد وَّحدت المصائر البشرية في مصير كوني مشترك، كما يزعم دعاتها، فإنها عمَّقت التفاوتات والفوارق واللا مساوة بين بلدان الجنوب والشمال

لقد برهنت الأزمة المالية أن العولمة لم تكن خيارًا كونيًا شاملًا للنمو والازدهار؛ أي ذلك الخيار الذي يُقلِّل الفوارق الاقتصادية والتفاوتات التنموية بين بلدان الشمال والجنوب، من جهة، وبين الطبقات الغنية والفقيرة داخل المجتمع المحلي المعين، من جهة أخرى. وإذا كانت العوَّلمة قد وَّحدت المصائر البشرية في مصير كوني مشترك، كما يزعم ذلك دُعاة المواطنة الكونية النيوليبرالية الزائفة، فإنها قد عمَّقت التفاوتات والفوارق واللا مساوة بين بلدان الجنوب وبلدان الشمال، آخذين في الاعتبار أن كل نماذج النمو الاقتصادي في بلدان الجنوب التي حققت معدلات عالية في العقدين الأخيرين لم تنتشل الأغلبية الكادحة والمسحوقة من مواطنيها من براثن الفقر والعطالة والاغتراب والاستلاب، وحتى مأثرة ومعجزة النمور الأسيوية كان لها ما بعدها من حيث مثبطات النمو والانكماش وضعف المقاومة الذاتية، أمام الصدمات التي تضرب البورصات وأسواق المال العالمية جراء الأزمات البنيوية التي تعتري جسد النظام الرأسمالي ما بعد الصناعي بين الحين والآخر.

اقرأ/ي أيضًا: الصادق سمل والصفح.. هل من عدالة؟

وعلى بعد فراسخ قليلة من الزمن تبلغ 12 عامًا من الأزمة المالية، ها هي جائحة فايروس كورونا المستجد تضع المصير البشري المُعوَّلم على محكٍ أصعب من محك أزمات الكساد السابقة، وهو محك لا يمكنك معه الرجوع إلى الوراء أو التقدم إلى الأمام. إن معظم البلدان التي عانت من الأزمة المالية لا زالت تدفع ثمن ذلك بأشكال مختلفة، تارةَ بطباعة وتسييل الكثير من النقود لإنقاذ البنوك المركزية من أزماتها التي ثبَّطت نمو الاقتصاد العالمي، وتارةً بتبني سياسات تقشفية يدفع ثمنها الفقراء والمعدمون والكادحون والمقصيون من فردوس الرأسمالية الكوني المُتعالي، حيث أدى ذلك في نهاية المطاف إلى بزوغ النزعات القومية الانفصالية وصعود التيارات اليمينية والشعبوية المتطرفة، والتي تجسدت في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتفشي الظاهرة الترامبية تحت شعار "أمريكا أولًا"، لنشهد الإفلاس الرمزي مُجسَّدًا في انسداد أفق من آفاق العولمة المُفخَّخة بالكثير من الأزمات التي ستظل تعتري جسد النظام الرأسمالي الما بعد صناعي تباعًا.

إن ذات العولمة التي أشرعت الحدود والتبادلات المفتوحة والتكتلات الاقتصادية متعددة الأطراف والأشكال، بعد أن حولَّت الدولة إلى جُرم طفيلي صغير يدور حول موائد طبقة الأثرياء والسياسيين الفاسدين، ها هي تسقي شعوب العالم سمًا آخر من سموم الازدهار الاقتصادي والتكنولوجي المنقوص، حيث هرع رؤساء البلدان الرأسمالية الغربية إلى نظم الرعاية الصحية التي تقلصت امتيازاتها وتغطيتها الشاملة جراء التوحش الرأسمالي، ليجدوا أن هذه النظم غير قادرة على كبح جماح جائحة معوَّلمة كحالة فيروس كورونا. وهي ذات النظم التي أخذت تتآكل جراء الهجمة الثاتشرية الريغانية في سبعينات القرن المنصرم، حيث أخذت السوق الحُرَّة تنهش نموذج دولة الرفاه الاجتماعي رويدًا رويدًا، والذي تآكل وتهاوي أخيرًا جراء نمط الأمولة النيوليبرالي المُعوَّلم، حيث البورصات وأسواق المال التي أصبحت أشبه بدراكولا كوني يمتص فوائض بلدان الشمال والجنوب على حساب استنزاف موارد وثروات كوكب الأرض واستشراء الأمراض والأوبئة والفقر والعطالة والاغتراب والاستلاب، لنحصد في نهاية المطاف تغييرات مناخية حادة ومتطرفة وموجات وأنماط جديدة من التلوث البيئي العالمي.

لم تكن العولمة النيوليبرالية نتاج زواج سعيد بين حداثات بلدان الشمال وحداثات بلدان الجنوب، طالما الهيمنة الإمبريالية والكونية فُرضت من طرف واحد

كان من الطبيعي أن تعلن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية النقص الحاد في المعدات الطبية في المستشفيات الحكومية والخاصة في جميع الولايات، كنقص مواد التعقيم والكمامات وأسطوانات الأكسجين والضغط العالي على أجهزة الاختبارات والفحص. ومع آخذنا في الاعتبار أن معدلات استشراء جائحة كورونا تفوق إمكانات وقدرات الولايات المتحدة الأمريكية حتى لو كان اقتصادها هو المحرك للاقتصاد العالمي بجانب الاقتصاد الصيني. ومن اللافت أن كل حكومات المجتمعات الما بعد صناعية، وليس الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، لم تكن استجابتها لفيروس كورونا النيوليبرالي المعوَّلم بنفس استجابتها للأزمة المالية الأخيرة، إذ يعز على هذه الحكومات انهيار النظام المالي العالمي أكثر من موت الملايين بجائحة كورونا الشرهة لالتهام كل رساميل وفوائض المتروبول. إن إنقاذ البنوك والشركات والبورصات من الإفلاس والانهيار خيار فائق الأهمية ولا يُساوم دومًا وأبدًا مقارنةً مع موت الملايين من البشر، فالعالم يحكم قبضته حفنة من الأثرياء المصابين بفيروسات التنافسية والربحية والمراكمة والتدوير غير المنتج للرساميل والفوائض.

وحتى في أوج احتدام جائحة كورونا، تنامى منسوب الدناءة الترامبية عندما أخذ يفاوض بعض الباحثين والشركات الطبية الألمانية حول الرغبة الحثيثة للولايات المتحدة الأمريكية في امتلاك لقاح لفيروس كورونا قيد التطوير الآن من قبلهم. وكان رد هؤلاء الباحثين أنهم يطورون لقاحًا للبشرية جمعاء، في محاولة لإحياء النزعة الإنسانوية التي كان ينبغي أن تغذي العولمة وتجعلها مثمرة لكل الشعوب والمجتمعات والبلدان.

اقرأ/ي أيضًا: آفاق التفكير تنمويًا في الثورة السودانية

لم تكن العولمة النيوليبرالية نتاج زواج سعيد بين حداثات بلدان الشمال وحداثات بلدان الجنوب، طالما الهيمنة الإمبريالية والكونية فُرضت من طرف واحد على الآخر طوال أكثر من خمسة قرون من الاستعمار الغربي بأشكاله ونماذجه المختلفة، لتحصد في نهاية المطاف بلدان الجنوب حداثات كسيحة ومشلولة ومشوهة. وها هو الوجه الحداثي القبيح للبلدان الرأسمالية الما بعد صناعية، على وجه الخصوص إيطاليا، يستهتر في البدايات من استشراء الجائحة الفيروسية عندما بدأت في التهام الصينيين أولًا، ظَّنًا منهم أن هذا الاستشراء مصدره قذارة الصينين المتأصلة جينيًا وحضاريًا، وكأننا ضحايا حضرة تبشيرية كولنينالية وليست هجمة فيروسية وبائية طالت الأخضر واليابس والمستقبل أيضًا.

تخفي الصين توحشها الهدَّار والاستنزافي للموارد والملوث للمناخ بالنتيجة، مما يجعلها ذات قابلية خاصة لإنتاج سلالات جديدة من الفيروسات القاتلة والمدمرة

ويُفقِر الجميع الآن أفواههم أمام المعجزة الصينية المُتمِّثلة في وضع حد لاستشراء الجائحة، حيث لم تسجل الصين خلال الأيام الماضية إلا إصابات محدودة. تحقق الصين الكثير من المعجزات في المجالات المختلفة، كالنمو الاقتصادي شبه المستدام في العقدين الآخرين وغزارة الإنتاج المعرفي والبحثي العلمي الذي فاق الولايات الأمريكية نفسها في السنوات الأخيرة، إضافةً إلى التطور التقني والتكنولوجي الذي ظهر أثره الحيوي والفعَّال في الحد من استشراء جائحة كورونا. مع ذلك، تُعد اشتراكية الصين الرأسمالية المعوَّلمة ذات مطامح توسعية لكن بخصائص إمبريالية صينية. فما كانت تطمح إليه إصلاحات دينغ، الأب المؤسس للصين الرأسمالية بخصائص اشتراكية مُعوَّلمة، هو تأسيس نظام رأسمالي بلا برجوازية حتى لا تتحول إلى طبقة حاكمة جديدة.

ولكن مع الطفرات الاقتصادية والتكنولوجية التي ظلَّت تتحقق للصين، تخفي الصين توحشها الهدَّار والاستنزافي للموارد والملوث للمناخ بالنتيجة، مما يجعلها ذات قابلية خاصة لإنتاج أنماط وسلالات جديدة من الفيروسات القاتلة والمدمرة، ناهيك عن الهيمَّنة التوتليتارية للحزب الشيوعي الصيني الذي عوَّل على ميراث طويل ومديد من الإذعان العفوي والتلقائي للإنسان الصيني. وإلى أن نشهد ديمقراطية حقيقية بخصائص صينية، علينا الاستمتاع برأسمالية صينية بخصائص فيروسية اشتراكية معوَّلمة وقاتلة ومدمرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خارج حدود الاعتصام.. لماذا بالخارج؟

خارج حدود الاعتصام.. من بالخارج؟