مرةً أخرى، أدلى الفريق أول ياسر العطا أحد كبار الضباط الصاعدين في حقبة ما بعد ديسمبر إلى أريكة مجلس السيادة الانتقالي في السودان، فيما يبدو قيادة جماعية مؤسسية أملتها ظروف انحياز الجيش إلى مطالب الثوار المعتصمين في محيط القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وما تأسس على ذلك من طور انتقال حوى ثورة وانقلاب وانتهى إلى حرب ضارية – أدلى بتصريحات وصفت بالعدائية إزاء دولة الإمارات العربية المتحدة ودمغها بأشد الألفاظ وأقذعها إلى درجة مطابقتها بعصابات المافيا، قائلًا إنها "تحب الخراب وتمشي خطى الشر"، وواصفًا قادة الإمارات الحاليين بـ"خلف الشر"، في ظل تأييد عام وارتياح في أوساط الجنود المُخاطبين من هيئة عمليات جهاز المخابرات العامة بمنطقة أم درمان غربي الخرطوم.
محلل سياسي: تصريحات العطا ضد الإمارات تأتي في توقيت مريح لقادة الجيش السوداني بعد استلامهم "إمدادًا وفيرًا" بدأت آثاره تظهر في معارك الخرطوم
وأتت تصريحات العطا في سياق تحذيري، وهو يؤكد أن يد المخابرات طويلة وأنياب القوى الأمنية فتّاكة وقادرة على طحن الأعادي، شارحًا ومفصلًا طرق الإمداد الإماراتي إلى الدعم السريع عبر مطارات عنتيبي وأفريقيا الوسطى وأخيرًا مطار "أم جرس" في تشاد، ودعم من أسماهم نافذين في الدولة التشادية قال إنهم تلقوا رشى لتسهيل وصول الإمدادات إلى الدعم السريع، لافتًا إلى أنها –أي الإمدادات الإماراتية– صارت تُنقل مؤخرًا عبر مطار العاصمة التشادية أنجمينا بدلًا عن "أم جرس".
وشكر ياسر العطا في تصريحاته ليبيا طرابلس وندد بليبيا بنغازي الداعمة –بحسب قوله– للدعم السريع. ومع تصاعد وتيرة الهجوم على من أسماهم "قوى إسناد الاستعمار الحديث" أرسل العطا برقيات تحذيرية مفادها أن الأجهزة المخابراتية السودانية قادرة على "رد الدين والصاع صاعين" – حسب تعبيره. ولم ينسَ العطا –في غمرة هجومه على القوى الداعمة للدعم السريع– أن يشكر دعم المملكة العربية السعودية لمسار السلام وإنهاء الحرب في السودان عبر منبر جدة، مركزًا على نحو أكثر تفصيلًا على الدور المصري الرسمي والشعبي الداعم للشعب السوداني في محنته، ضمن عدد من الدول منها: تشاد وجنوب السودان والجزائر وتركيا وسلطنة عمان والأردن، وذكر دولة قطر بتركيز أخص في خضم الشكر الممتد والشامل.
ويمكن أن يقرأ خطاب العطا التصعيدي على نحو مباشر بوصفه استمالة للرأي العام العسكري الذي لا يرد له ذكر في تحليل المواقف على أهميته ومفاعيله، إذ يبدو البون شاسعًا بين انخراط الجنود في أتون المعارك الدائرة في مدن السودان وحواضره ونزوع قادة الجيش إلى التسوية التي تنشط في إقرارها وتسهيل التوافق عليها قوى إقليمية ودولية وازنة، والمفارقة التي تثير الأسئلة والشكوك بشأن جذرية الحرب وصفريتها تجاه الدعم السريع. ومن هذه الناحية يبدو تصويب العطا المباشر لنيرانه نحو الإمارات فيما عده مراقبون "طعنًا في الأفيال عوض الظلال" – من هذه الناحية تعد تصريحات العطا "فك لجام خطابي" بامتياز وإعادة تعريف للحرب في بعدها الجوهري حسب ما يرى ثوريون جذريون وجدوا في الحرب الحالية سانحة تأسيسية أخيرة لوقوفها على الضد من "الدعم السريع وقوى دعمه وإسناده الإقليميين والدوليين ومشروعهم الاستتباعي والإلحاقي إزاء السودان بموارده الجيوسياسية بالغة التأثير والنفاذ".
يرى المختص في تحليل بنية المؤسسات والسياسات محمد الواثق أبو زيد أن تصريحات العطا لا تنفك عن زيارات الجنرال البرهان إلى دول إقليمية مختلفة ومطالبته بعضَها بمواقف واضحة ومؤسسة على الموقف من الحرب في ظل ما أكده الواثق من رسائل تحذيرية أصدرتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الإمارات مفادها –بحسب الواثق– أنهم قد لا يستطيعون حمايتهم إذا ما ثبت ضلوعهم في دعم أي انتهاكات للدعم السريع لا سيما في فضاء السودان الغربي، غير أن العلامة الفارقة في تصريحات العطا هو ما أبانه الواثق قائلًا إن مؤسسة الجيش أرادت أن تبعث رسائلها إلى دول الجوار بإمكانية العبث بتناقضاتها الغائرة وفق ما ورد في تشديد العطا على اليد الطويلة للمخابرات السودانية وقدرتها على تحريك الملفات الأمنية الداخلية التي من شأنها أن تهز بنية الاستقرار الهش في معظم هذه الدول. وهي تصريحات تأتي –بحسب الواثق– في توقيت مريح لقادة الجيش بعد استلامهم "إمدادًا وفيرًا" بدأت آثاره تظهر بوضوح في المعارك وفي التقدم الميداني غير المنظور في الخرطوم، مع ضرب نقاط تجمع عناصر الدعم السريع واستنزافها لا سيما في مدن الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان.
ثمة هدف إدراكي يتراءى من خلال تصريحات العطا، وهو مواءمة استدارة الجيش السوداني في مواجهة أخطائه وخطاياه وانخراطه في حرب شرسة، هي –في واحدة من تجلياتها– نتاج إخفاقات المؤسسة العسكرية نفسها أو في أدنى مراتبها سماحها بمرور "أخطاء إستراتيجية كارثية" فرضتها معادلات السلطة الإنقاذية في عشريتها الثالثة، من خلال وأد محاولات الإصلاح الداخلي وإنشاء الدعم السريع وإضعاف الجيش وإخضاع التركيبة الأمنية لتقديرات السياسة وموازنات السلطة وليس مقررات الأمن القومي للدولة السودانية – بحسب محمد الواثق أبو زيد.
ويعتقد الكاتب والمحلل السياسي عباس محمد صالح أن مصدر قوة تصريحات الفريق أول ياسر العطا ضد الإمارات أنه "تواترت أدلة لا يرقى إليها الشك في إثبات الدعم الكبير الذي توفره أبوظبي لقوات الدعم السريع قبل اندلاع الحرب وبعدها بقدر أكبر". وبحسبه، فهي تصريحات تبرز –بالضرورة– موقف قادة الجيش السوداني تجاه الإمارات. ولكثير من الدوائر الوطنية وطيف واسع من المراقبين، فإن الصراع الذي اندلع في الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي ما هو في الواقع إلا "حرب بالوكالة عن دولة الإمارات بامتياز" وما قوات الدعم السريع إلا أداة استخدمت في تنفيذ "مخطط كبير يستهدف بنية الدولة السودانية ومؤسساتها الحيوية" وفق ما يقول صالح. ويبدو أن قادة الجيش –بحسب صالح– وصلوا إلى "قناعات قطعية مفادها أن دولة الإمارات العربية المتحدة لن تغير نهجها الحالي"، بوقف دعم هذا "النمط المتمرد" الذي وضع البلاد على "شفا التقسيم" – بتعبير صالح، فضلًا عن "التدمير الممنهج لمقدرات البلاد والانتهاكات الجسيمة ضد شعبها" أو أن أبوظبي تضع شروطًا ومطالب يصعب عليهم القبول بها وتحمل نتائجها على المستوى الداخلي – وفق تحليل صالح.
ومن المفارقات –في قول صالح– أن بعض من أسماها "القوى الكبرى" مضت إلى تشجيع فكرة التواصل بين قادة القوات المسلحة السودانية والمسؤولين الإماراتيين لمناقشة هذا الأمر بدلًا من إدانة "الدعم الإماراتي المكشوف"، وهي أفكار "تشي بتواطؤ واضح مع المشروع الإماراتي الخادم لها على نحو مباشر أو غير مباشر" – بتوصيف صالح. ويعدد صالح وجوه "رهانات أبوظبي على دعم تمرد الدعم السريع للاستيلاء على السلطة بالقوة" لتحقيق الأجندة الآتية:
أ/ تمكينها من الاستيلاء غير المشروع على الموارد والموانئ السودانية من خلال فرض مجموعات سياسية أو عسكرية موالية لها في نظام الحكم.
ب/ تفكيك مؤسسة القوات المسلحة (الجيش السوداني) بوصفها العمود الفقري لكيان الدولة وإحلال مليشيا الدعم السريع مكانها.
ج/ إيجاد نظام سياسي مستعد للانخراط في التطبيع مع الكيان الصهيوني والذي تقوده الإمارات في العالمين العربي والإسلامي.
د/ محاربة الإسلاميين والقضاء على عناصر قوتهم في المجال العمومي بالسودان.
ويستأنف صالح تحليله قائلًا: "بعد صمت امتد أشهرًا، بدا أن غض الطرف عن تورط أبوظبي في الصراع الحالي في البلاد سيضع القادة العسكريين أمام مواجهة صعبة مع الرأي العام المعبأ بشعور الإحباط والغضب تجاه ما حاق بالبلاد"، لافتًا إلى أنهم –أي القادة العسكريين الحاليين– يتحملون أعظم هذه الأوزار، كما سيضعف هذا الصمت إزاء التدخل الإماراتي في الشأن السوداني موقف هؤلاء القادة داخل المؤسسة العسكرية التي وقع عليها عبء مواجهة "التمرد المدعوم إماراتيًا" – وفق صالح. وبالنتيجة سيضعف استمرار "الصمت الرسمي تجاه الدعم الإماراتي لمليشيا الدعم السريع" كذلك خطاب حكومة الأمر الواقع الخاضعة لسيطرة قادة الجيش، إذ لن تستطيع إقناع الدول الأخرى والمنظمات الدولية والإقليمية سياسيًا وقانونيًا ودبلوماسيًا بصحة هذا الدعم وهي تلزم الصمت – بحسب صالح.
وبدرجة من الدرجات يسعى خطاب ياسر العطا إلى "ضبط إيقاع السياسي مع العسكري والإعلامي مع الميداني"، وهو المنذور بوصفه "أكثر الضباط السياديين جذرية في الموقف من الدعم السريع" وفي ممارسة دبلوماسية الحرب التي تقتضي المخاشنة أحيانًا كما جرى في تصريحاته بشأن الدور الكيني إزاء حرب السودان. وقد لا يخلو الأمر من دافع تنافسي يظهره طموح العطا إلى شغل دور أكبر واعتلاء مقام أعلى في سدة السلطة في حقبة ما بعد الحرب، وهو يترسم خطى المؤسسة النازعة إلى القضاء على الدعم السريع قضاءً مبرمًا، وصدى ذلك على القطاعات المتضررة من الانتهاكات الواسعة للدعم السريع، ليس بوصفها أثرًا جانبيًا للحرب وإنما طبيعة ملازمة لهذه القوات.
ويبقى ما ورد على لسان ياسر العطا حدثًا فارقًا في مسار الحرب التي يمثل الخطاب أعلى تمظهراتها قوة ونفاذًا، فالحرب أولها كلام وآخرها كذلك.