26-نوفمبر-2023
مقاتل يحمل سلاحًا - أبيض وأسود

(Getty)

في مقطع فيديو انتشر قبل يومين، ولم يستوقف السودانيين كثيرًا؛ دعا الجنرال عثمان ديلو، من داخل مدينة الفاشر، إلى الاستعداد لخوض حرب طويلة في دارفور. الجنرال ديلو، هو أحد القادة القبليين الموجودين الآن في السودان، وينتمون من حيث الجنسية إلى دولة تشاد المجاورة. وبحسب تغريدة مقتضبة لكبير باحثي المركز الأفريقي في المجلس الأطلسي كاميرون هدسون، فإن "زعيم الزغاوة التشادي البارز، يدعو أفراد قبيلة الزغاوة في كل من تشاد والسودان، إلى حمل السلاح والقدوم إلى دارفور لـ"شن حرب ضد قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي".

ظاهرة القادة والمقاتلين العابرين للحدود، إحدى الظواهر اللافتة في الحرب التي تدور الآن في السودان

ظاهرة القادة والمقاتلين العابرين للحدود، إحدى الظواهر اللافتة في الحرب التي تدور الآن في السودان، وإحدى الأدوات الدعائية التي استخدمها أنصار القوات المسلحة بشدة في حربهم الإعلامية ضد قوات الدعم السريع، فمنذ الأيام الأولى للحرب لجأ الإعلام الرسمي للدولة إلى وصف قوات الدعم السريع بالاستعانة بالمقاتلين الأجانب أو (المرتزقة)، وتخوينها، فهي -بناء على ذلك- تخوض حربًا بالوكالة بأجندة تدميرية لتفكيك البلاد وتدميرها! ما عزز من هذا التوصيف التخويني حالات الظهور الدعائي المكثف لمقاتلي الدعم السريع على مواقع السوشيال ميديا، وتقديم بعضهم لأنفسهم بأنهم يمثلون "المعارضة التشادية"، أو أنهم مقاتلون تشاديون جاءوا لنصرة إخوانهم في السودان. الأمر يبدو ملتبسًا ومعقدًا لمن لا يعرف طبيعة التداخل الحدودي بين دولتي السودان وتشاد، ولمن لا يعي الطبيعة العشائرية لقبائل البدو -العربية والأفريقية- التي تقطن على الحدود بين البلدين، وبالتالي تُذوب بحكم تمازجها الإثني، الفاصل الحدودي – الطبوغرافي بين السودان وتشاد. لذا من المهم قراءة دعوة الجنرال ديلو ضمن هذا السياق، فالرجل مثله مثل قادة آخرين في المعسكر الآخر، لا ينظر إلى الوضع من زاوية سيادية لبلد ما بحدوده الجغرافية والسياسية في مقابل بلد آخر بالحدود الفاصلة نفسها، أمنيًا وسياسيًا وأمميًا، بل يرى المسألة برمتها من منظور قبلي – رعوي ضيق جدًا، يستدعي الاستنفار والتداعي متى ما دعت الحاجة إلى نصرة الدم والعرق.

في تعليقه على مقطع الفيديو آنف الذكر، أشار كاميرون هدسون إلى أن "الناس إذا اعتقدت أن مستويات العنف في دارفور كانت سيئة، فإن الأمر على وشك أن يصبح أسوأ بكثير". والرجل هنا يشير إلى حجم العنف المتوقع حدوثه في حال اندلعت الحرب بالكيفية القبلية التي يحيل إليها خطاب الجنرال ديلو، كما يحذر -هدسون- ضمنًا من اتساع دائرة الحرب في دارفور على هذا النمط، في حال انكسر مربع المواجهة بين الدعم السريع والجيش، وانزلق في اتجاه المواجهة القبلية، بشكلها التقليدي في دارفور، العرب ضد الزغاوة، أو بشكل أكثر اتساعًا ودمارًا: "القبائل العربية ضد ما يعرف بقبائل الزرقة"، ومن ثم هزيمة الدولة وانتقال الحرب إلى مدار آخر يصعب السيطرة عليه.

Prominent Chadian Zaghawa leader, Ousman Dillo, speaking from El Fasher where he is calling on the entire Zaghawa community to take up arms and come to Darfur to "make war against Hemedti's RSF." If people thought the levels of violence there were bad it is about to get far worse pic.twitter.com/UuxOV1ZVPN

— Cameron Hudson (@_hudsonc) November 23, 2023

الأخبار القادمة من مدينة الفاشر تقول إن الوضع محتقن، لا سيما بعد إعلان بعض قادة حركات الكفاح المسلح (مناوي وخليل)، الخروج من موقف الحياد والانحياز إلى جانب القوات المسلحة، وفي حال حدوث أي مواجهات بين الفئتين: قوات الدعم السريع وقوات الحركات، فإن شأن الحرب قد يصبح مختلفًا تمامًا، وقد ينقل المدينة والإقليم برمته إلى المربع الذي يشير إليه الجنرال القبلي وهو يتحدث ومن ورائه جنوده في وضع الاستعداد على ظهر مركبة عسكرية من داخل مدينة الفاشر، ويدعو من هناك أفراد قبيلته إلى الاستعداد للحرب.

في مقال سابق كنت قد أشرت إلى التعقيدات الكبيرة التي تواجه قادة الحركات المسلحة في دارفور في حال انضمامهم إلى أحد طرفي الصراع في السودان، وأشرت إلى ما يمكن أن أسميه المسألة التشادية، فكما هو معروف فإن موقف الحكومة التشادية من الحرب الدائرة في جارتها السودان هو الانحياز إلى جانب قوات الدعم السريع، ودعم هذه القوات لوجستيًا بما يؤمن لها الإمداد والتسليح وإخلاء الجرحى، الشيء الذي ساعد قوات الدعم السريع في تحقيق الكثير من الانتصارات في المعارك الأخيرة، لا سيما في في إقليم دارفور "نيالا وبقية المناطق". من الجانب الآخر نجد أن الساند القبلي -فاعل أساسي في الحكم- في دولة تشاد هو قبيلة الزغاوة التي تنتمي إليها حركات مسلحة قوية وكبيرة في إقليم دارفور (تحرير السودان – مناوي، والعدل والمساواة – جبريل)، وقلت في المقال السابق إنه في حال انتقال الحرب إلى مربع آخر من المواجهة وتبلورها في الشكل القبلي - التاريخي المعروف في دارفور، فإن الوضع في تشاد سيتطور إلى مرحلة الأزمة ما بين القيادة التشادية الشابة ممثلة في الرئيس محمد ديبي وكبار قادة وضباط الجيش، لا سيما من الحرس القديم. فالمتوقع في حال انتقال الحرب إلى المواجهة القبلية أن يميل هؤلاء القادة التاريخيون إلى مناصرة إخوتهم في السودان وترجيح نداء الدم على أي متطلبات أخرى، وإن كانت أولويات سلطة وحكم وعلاقات دولية وليدة تشابكات معقدة تتجاوز القبلي والإثني، فالحكم والسلطة لدى هذه القيادات تنتجه التحالفات الإثنية، وتنصره التحالفات القبلية المتجاوزة للحدود، مثلما حدث قبل أكثر من (30) عامًا حينما تمكن الجنرال إدريس ديبي من الاستيلاء على الحكم عبر الثورة المسلحة، وقاد جيشه من داخل السودان مدعمًا بالمقاتلين السودانيين إلى أن سيطر على الحكم في العاصمة إنجمينا. يضاف إلى كل ذلك أن التطاحن القبلي لن يتوقف  -إن وقعت الحرب- في حدود الفاشر أو السودان عامة، بل سينتقل تلقائيًا إلى الجارة تشاد ذات التداخل الإثني المتشابه في كل شيء، وأوله سيولة الحركة المقاتلة من وإلى كلا البلدين.

اشتعال الحرب وبالشكل الذي يدعو إليه الجنرال ديلو، سيفجر إقليم دارفور بأكمله ولن يتوقف الأمر عند ذلك الحد، إذ سيفهم الجميع وقتها معنى التحذيرات التي انطلقت عند بداية الحرب في الخرطوم

اشتعال الحرب وبالشكل الذي يدعو إليه الجنرال ديلو، سيفجر إقليم دارفور بأكمله ولن يتوقف الأمر عند ذلك الحد، إذ سيفهم الجميع وقتها معنى التحذيرات التي انطلقت عند بداية الحرب في الخرطوم، من أن استمرارها يمثل خطورة على الإقليم الإفريقي برمته، وأن اتساعها يعني انتقالها -الحرب- إلى الدول المجاورة واحدة تلو الأخرى. لكن برغم كل المخاوف والمؤشرات التي تقود إلى انفلات الوضع، إلا أننا نجد بعضًا من الأصوات العاقلة -من الطرفين- تدعو إلى تغليب الحكمة وعدم الانجرار وراء الاستفزازات التي ستؤزم الوضع بحيث يصبح من المحال العودة إلى الوراء.