31-يوليو-2022
تريفور نواه

نريفور نواه (USA Today)

على ضوء طفولته القاسية و المضطربة لم يكن تريڤور؛ الطفل الملون -على حد ما يصفه الناس بجوهانسبرغ- لم يكن يعلم أنه سيتمكن يومًا ما من الخروج من غرفته كسائر البشر ناهيك عن تقديم واحد من أكبر البرامج التلفزيونية بالولايات المتحدة الأمريكية.

قبل عدة سنوات تمكن تريڤور نواه -وهو كوميدي من أصول جنوب أفريقية- من الصعود على منصة تقديم برنامج (THE DAILY TALK SHOW ) ليصبح بذلك أول مواطن غير أمريكي يقوم بهذا الدور. على كل حال لست هنا للتحدث في هذا الصدد لكنني آمل أن أتمكن من الوصول لفهم أعمق لـتريڤور و تسليط الضوء على ما فعله، أقصد استخدامه للكوميديا الموجهة بطريقة عبقرية وقدرته على فك شيفرة التنميط الأفريقي (Stereotyping).

كلما قدم تريڤور عرضًا ساخرًا، نجده لا يتوانى عن كسر التنميط  الواقع على أفريقيا

يرى الكاتب البريطاني هوريس والبول (Horace Walpole) أن الحياة هي تراجيديا بالنسبة للأشخاص الحساسين للغاية وعلى النقيض تمامًا تستحيل نفس الحياة فتصبح كوميديا جامحة لذيذة لأولئك الذين يفكرون. بالنسبة للظروف التي عاشها تريڤور أثناء نضوجه، و ربما لو لم يحقق شرط والبول "الذكاء" لكان الآن منزويًا في أحد ضواحي جوهانسبرغ الفقيرة.

تفرض الكوميديا -بطبيعة الحال- نفسها على كل الفضاءات؛ إذ أنها تنتهك الحدود الذاتية والاجتماعية والعرقية والإثنية بطريقة صاخبة تفرض على الجميع الضحك ولو كان على أنفسهم حتى؛ فهي تُمكن غير العادي والمخيف إلى أن يتحول إلى عادي و مرح وذلك بعصا سحرية تسمى ببساطة ودون تعقيد؛ الضحك. 

الكوميديا هي "كوموس أودي"، وهما كلمتان إغريقيتان تعنيان "الغناء والمرح الصاخب"، وهو الأمر الذي يمثله أداء تريڤور الذي يخطف الأنظار. 

في إحدى عروضه التي تجمع بين السخرية والتنوير بالتقاطع، يتحدث تريڤور عن دولة زامبيا و عن زيارته لها. ركّز في ذلك العرض على دهشة المواطنين بافتتاح أول سلم كهربائي بالعاصمة، وبينما كان يحكي ويجعل دموع الضحك تتساقط من الجمهور كان يقوم أيضًا بدحض بعض الأفكار المغلوطة عن أفريقيا بصورة عامة، مثل عدم توفر وسائل الترفيه بقوله إن زامبيا ليست بذلك السوء، لكنهم ببساطة لم يكن لديهم سلم كهربائي. وفي تلك الأثناء التي كان فيها يجعل المسرح يقفز بأهازيج الضحك بيده اليمنى، كان أيضًا يدمر التجاهل العالمي لأفريقيا بيده اليسرى حتى لو كان بالحكي فقط.

نجد أنه كلما قدم تريڤور عرضًا ساخرًا، نجده لا يتوانى عن كسر التنميط  الواقع على أفريقيا الذي يستخدم بعض الصفات الشخصية أو الأنماط السلوكية لعمل تعميم على كل القارة، وذلك باستخدام هذه الخصائص كمحدد لسلوك الشخوص وصناعة قوالب يتم وضع الأفارقة فيها، ومن ثم إصدار الأحكام ضدهم بناءً علي هذا القالب المهترئ/المفروض من الأساس.

يروي تريڤور بنفسه عبر برنامج (The 60 Minutes Interview ) كيف أنه كان طفلًا مرفوضًا في جنوب أفريقيا. ليس القصد هنا ابتعاد الناس عنه، لكن فكرة ولادته من الأساس كانت "تابوهًا" في ثقافة موطنه بذلك الحين، حيث كان يسيطر مفهوم الفصل العنصري  (Apartheid) وهو القانون الذي حكمت بموجبه الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا. كان والد تريڤور سويسريًا أبيض البشرة وأمه تحمل سحنة الزنوج السمر، وهو ما جعل الناس يطلقون عليه "إبن الجريمة"، في نظرهم كانت ولادته خطيئة جريئة.

تحت هذه الظروف نشأ تريڤور في بيئة مسمومة ودخل في عزلة جبرية بسبب والدته وجدته اللتان كانتا تحاولان حمايته من السلطات التي كانت تأخذ الأطفال -من نوعه- إلى ملاجئ قاسية. على ضوء هذه الحقائق و بسبب حبسه في البيت أصبح طفلًا يلتهم الكتب و تصالح مع العزلة. هذه العزلة التي دخلها العالم أيضًا في بواكير العام 2020 لم تكن غريبة عليه وساعد من خلالها الكثيرين في تخطي هذه المحنة من خلال القيام بفيديوهات ترفيهية حتى وصل إلى (11) مليون متابع في خلال فترة الحجر المنزلي. لم يكتفِ بإضافة الفكاهة فقط؛ لكنه تمكن من إظهار أبعاده الجانبية مستغلًا قاعدته التي بناها من الكوميديا حيث تبنى أيضًا قضايا انسانية مثل قضية جورج فلويد المشهورة.

هناك خط رفيع يفصل بين الضحك والألم، الكوميديا والتراجيديا، الفكاهة والأذى ويمكن القول إن تريفور نواه هو ذاته هذا الخيط

كونه نصف أبيض ونصف أسود؛ يحقق تريڤور قول إرما بومبيك (Erma Bombeck) بأن هناك خطًا رفيعًا يفصل بين الضحك والألم، الكوميديا والتراجيديا، الفكاهة والأذى. بهذا الخليط السحري يمتلك تريڤور حصةً لا بأس منها من الألم بل يمكن القول أنه هو ذاته الخيط الذي نشدته السيدة إرما؛ فهو كما يقول بلسانه لم يجد إحساس الانتماء في حياته مسبقًا إلا من خلال الكوميديا وحدها، لم يخفِ شعوره بالغرابة البتة، لكن من منا لا يصعقه هذا الأمر؟ ذلك الإحساس الدفين بالاغتراب عن النفس ورفض الواقع على حد سواء؟ يظهر هذا الأمر في نطاق الدراسة، العمل أو على كافة الأصعدة التي تحتمل الانتماء. يعرض تريڤور نفسه -بتلقائية- كنموذج لمرء تمكن من القبض على مخاوفه بالكوميديا، التي كما أسلفت أنها تخلق من المخيف؛ المرح.

"أحب مظهر الضحك فهو أكثر اللحظات التي نكون فيها حقيقيين، لأننا لا نتحكم بأنفسنا ولا نستطيع تغيير ملامحنا القبيحة"، كانت هذه كلمات تريڤور في إحدى عروضه الكوميدية، العروض التي يسعى من خلالها لرسم الضحكة على الوجوه، التي يأمل فيها من تحقيق بعضًا من العدالة الاجتماعية المفقودة، التي يحاول فيها إسقاط الضوء على أفريقيا، والتي يحاول فيها القبض على آلام الحاضرين واستبدالها بما يعرف ببساطة؛ الضحك.