17-أغسطس-2022
جدة "حبوبة" سودانية

(ضياء/أندريا)

في عالم يصبح ضئيلًا يومًا بعد يوم وتتمازج المجتمعات فيه أكثر من ذي قبل؛ ربما لا توجد طريقة لحفظ الثقافات من الضياع والاختلاط بغيرها أكثر من الحديث عنها، أعني منعها من خطر الانقراض بالتطرق إليها وإعطائها أدنى حد من الاهتمام المفروض ليبقيها على قيد الحياة. 

الإرث يفصل الحيوات ويجعلها غير قابلة للاستنساخ أو المحاكاة

يمضي الزمن بحزم، بجرأة وبلا نية في التوقف، هو يعلم أنه لا يحتاج لأحد؛ لكن الآخرين يحتاجونه، أولئك الذين سيواجهون الموت، أولئك الذين لم يطلقوا صرخة الميلاد الأولى بعد، ليسوا غير موجودين بالمرة. وما يربط هذين الفئتين الاثنتين أن كليهما يعتمدان على الزمن، وخلال عملية الحياة والموت يتركون خلفهم كنزًا قيّمًا، شيئًا يفصل الحيوات ويجعلها غير قابلة للاستنساخ أو المحاكاة؛ ألا وهو الإرث. 

الحكاية والإرث

و بالرجوع إلى النقطة الأولى، نجد أن هذا الإرث -الثقافة- أضحى العامل الأصيل والوحيد الذي يفرق الشعوب ويبرز الاختلاف الجمالي في العالم. في هذا الصدد تصدر القصص الشعبية نفسها كمرجعٍ غزير بالاستقلالية التي أنشدها، أي العنصر الذي يحدد التباين بين الأمم. وهي -الحكاية الشعبية- أو الـ(Folk-Tale)؛ شكل من أشكال التعبير الشفوي، تسرد سلسلة من الأحداث المتخيلة، وتفترض وجود راوٍ يقوم بقص هذه الأحداث. فالحكاية تنتمي إلى الأدب السردي وإلى عالم الخيال والمتخيل، وتتميز أحداثها بحيوية خاصة.

والحكاية الشعبـية -كما يعرّفها الباحث أحمد رشدي صالح- هي: "فنُّ القول التلقائي العريق، المتداول بالفعل، المتوارث جيلًا بعد جيل، المرتبط بالعادات والتقاليد. والحكاية هي العمود الفقري في التراث الشعبـي، وهي التي نطلق عليها مجازًا الأدب الشعبـي". ويقول د.هادي نعمان الهيتي إنها "نوعٌ قصصي ليس له مؤلف؛ لأنه حاصل ضرب عدد كبير من ألوان السرد القصصي الشفهي، الذي يضفي عليه. 

الحكاية والنوم

ارتبطت الأحجيات الشعبية السودانية بميقات النوم بالنسبة للأطفال، حيث كان يعد طقسًا أساسيًا حتى يستسلم الأطفال الصغار لغياهب النوم، هذه القصص تعتمد اعتمادًا محوريًا على دور الراوي الذي تقوم به الجدات على وجه الخصوص، حيث يضفن الدراما في أدائهن ويتمكن من شد انتباه الأطفال الصغار باستخدام العديد من التعبيرات مثل: "قالوا قالوا يكفينا شر قالوا التمساح في بحرو شالو.. خيرًا جانا وجاكم أكل عشاكم واندسا بي وراكم"، وبمثل هذه الجمل دائمًا ما تُستهل الحكايات. 

تناقش الحكايات السودانية العديد من الإشكالات، لكن أكثر ما شدني هو معرفة أسلافنا للدور التربوي لهذه القصص، كما أيضًا كانوا على دراية بالفئة التي يستهدفونها -الأطفال- فأصبحت هذه الأحجيات وسيلة تربوية من الطراز الرفيع، وباستخدام مفارقة البطل والشرير تمكنوا من إيصال الصحيح والخطأ بالنسبة لعرف المجتمع السوداني. بطريقة غير مباشرة لكنها في نفس الوقت سهلة الهضم والاستيعاب لأولئك الأطفال الذي ينتظرون الليل فقط للاستماع لهذه القصص. 

من الصعب الحديث عن القصص الشعبية السودانية دون التطرق إلى الدور الكبير الذي قام به البروفيسور عبد الله الطيب، الذي قام بإطلاق مجموعة قصصية تحمل العديد من القصص المحلية المشهورة، مثل "عرديب ساسو، "الملك البخيل"، "يا حمام يا دمام"، "فاطمة السمحة"، "ظلوت"، "أخدرعزاز". 

https://t.me/ultrasudan

و بغض النظر عن غياب عنصر الراوي الحي والاختلاف الواضح ما بين المكتوب والمسموع؛ إلا أن البروفيسور تمكن من كسر هذا الحاجز بلغته الدرامية الرصينة.

يقول بروفيسور عبد الله الطيب: "كانت الجدات في زمن مضى يسلين أطفالنا بُعيد المساء بحكايات ومسائل من الأُنس يقال لها الحُجا. كان الغرض من هذه الحكايات شحذ الأذهان وإدخال السرور على نفوس الأطفال ريثما يغلب عليهم النعاس، وقد راعينا في كتابتها الطريقة القديمة وحرصنا على أن نحتفظ بكثير مما في عباراتها من أسجاع وما أشبه".

لماذا الوحوش؟

تحتل قصص مثل "فاطمة السمحة" و"السحاحير" وكل القصص التي تحتوي على "المرفعين" - تحتل هذه القصص مكانة مرموقة مقارنة بأقرانها، إلا أن ما يربط كل هذه القصص هي الوحوش التي تتصدر بطولتها. 

في أحجية "فاطمة السمحة" التي تدور أحداثها بمكان ما في شماليّ السودان، نجح بعض الفتيات الغيورات من جمال فاطمة في مواجهة غول يختطف أجمل النساء ويتزوجهن قسرًا، إلا أن تدخل اخوانها يمكنها من الفرار والعودة إلى المنزل، وفي قصة "السحاحير" يزعم الناس أن هنالك أشخاص لهم ذيول يأكلون الأولاد بالتحديد، ونفس الحال ينطبق على كل قصص المرفعين وأحاجي مصاصي الدماء في الغرب كذلك، ليصبح السؤال: لماذا الوحوش؟ 

يتطرق الفيلسوف الألماني نيتشه إلى مفهوم الوحش، حيث يقول أن من يقاتل الوحش لا يتحول -في نهاية المطاف- إلى وحش. ربما كان هذا الدافع الأساسي الذي يجعل هذه الوحوش تتصدر المشهد القصصي الشعبي، بذكر صفات الوحش تدرك كيف لا تصبح وحشًا، بالطبع هذا الأمر لا ينطبق على كل القصص، لكن هذه زاوية للنظر إلى الأمر. يمكن النظر بطريقة أخرى، يمكن القول أن هذه القصص هي محاولة خجولة لتحدي ثقافتنا المحلية؛ فالخيال هو الشيء الوحيد الذي لا يُكبل بالأصفاد.

احتمال آخر يتلألأ، وهو إدراك أجدادنا للتأويل. هذه القصص المرعبة التي تحمل بالضرورة خطر التعرض للقتل أو الأكل أو كسر القواعد تشير إلى أن الإنسان أيضًا يمكنه ارتكاب هذه الجرائم المرعبة، ولا يقتصر الأمر على الكائنات الكاسرة، كما يقول الكاتب ريك ريوردان (Rick Riordan): "العالم الحقيقي هو الذي يوجد به الوحوش". 

تحت تهديد العولمة الثقافية التي ترسم نهجًا ليتبعه العالم؛ علينا القتال للحفاظ على هذا الإرث، ويجب علينا مواصلة إنتاجه بأكثر من طريقة ممكنة

ربما تقوم هذه القصص على الأساطير والخرافات، لكن كل القصص الشعبية في العالم تحمل طابع "الفانتازيا"، مثل قصة "ذات الرداء الأحمر" على سبيل المثال. هذه الأحجيات هي الموروث الثقافي الذي تركه لنا أسلافنا، هذا الموروث الذي يحمل في طياته أفكارهم، خيالاتهم، هواجسهم، نصائحهم والأهم من ذلك إرثهم الذي أضحى لنا وسنسلمه للقادمين من بعدنا. وتحت تهديد العولمة الثقافية التي ترسم نهجًا ليتبعه العالم؛ علينا القتال للحفاظ على هذا الإرث، ويجب علينا مواصلة إنتاجه بأكثر من طريقة ممكنة.