تحالفت الظروف الداخلية والخارجية لتخلق واقعًا سياسيًا معقدًا وضائقة اقتصادية حادة في السودان بعد تصاعد الأحداث بإعلان رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، حالة الطوارئ وتعطيل العمل بعدد من بنود الوثيقة الدستورية، وحل أجهزة الحكومة الانتقالية.
ويبرر البرهان -وهو أيضًا القائد العام للقوات المسلحة- قراراته بـ"الانقسامات"، والتي قال إنها شكلت إنذار خطر يهدد البلاد، مشيرًا إلى أن "التشاكس والتكالب على السلطة والتحريض على الفوضى دون النظر إلى المهددات الاقتصادية والأمنية هو ما دفع للقيام بما يحفظ السودان وثورته"، على حد قوله.
في ذات الوقت، انخرطت القوى الثورية في احتجاجات جماهيرية متواصلة تنديدًا بما وصفته بـ"الانقلاب على السلطة الدستورية"، فيما اعتقلت الجهات الأمنية العشرات، وتجاوزت أعداد الشهداء والشهيدات في حملات قمع التظاهرات السلمية الرافضة للحكم العسكري (95) من المواطنين، بينهم أطفال، وتعرض المئات للإصابة بدرجات متفاوتة، بحسب تقارير متطابقة للجنة أطباء السودان المركزية ومنظمات حقوقية.
الوضع الذي تطاول أمده في البلاد يفتح الباب للتساؤل حول جذور الأزمة السودانية وتحديات الانتقال
وجلست قوى سياسية في السودان بدورها في مشاورات غير مباشرة عبر الآلية الثلاثية التي شكلتها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيغاد في كانون الثاني/يناير الماضي، غير أن عمل الآلية بات مهددًا بتباعد المواقف السياسية؛ فبينما ترهن قوى الحرية والتغيير قبولها للتفاوض بما أسمته "التعاطي الإيجابي"، ترفع لجان المقاومة شعار "اللاءات الثلاث" والتي تعبر عن رفضها للشراكة والتسوية والتفاوض مع العسكر. بينما تعود القوى الأمنية المُسيطرة على السلطة اليوم، لتعتبر "التوافق السياسي" اشتراطًا لتسليم السلطة.
الوضع الذي تطاول أمده في السودان يفتح الباب للتساؤل حول جذور الأزمة السودانية وتحديات الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى مطلب الثورة الشعبية؛ الدولة المدنية الديمقراطية، فبينما يصف العسكر الوضع بـ"الأزمة السياسية" تدعو القوى الثورية إلى الخروج للشوارع احتجاجًا وتأكيدًا على أن قرارات قائد الجيش "رِدة" عن طريق الثورة.
أزمة موروثة
يرى الكاتب والمحلل السياسي محمد عبدالعزيز، أن ما يحدث في السودان اليوم يمثل أزمة سياسية متوارثة وحدثت مرارًا في تاريخ السودان، مشيرًا إلى أن المؤسسات السياسية تعجز عن الحراك الثوري، في وقت تعاني فيه حالة ضعف وانقسام وأزمات مركبة.
ويشير عبدالعزيز، في حديث لـ"الترا سودان"، إلى ضعف المكون العسكري وعجزه عن المضي في قراراته، مضيفًا: "الانقلاب أصبح عالقًا وعجزت القوى العسكرية عن إكمال هيكلته خلال ستة أشهر"، بجانب ضعف خبرات القيادة السياسية والتي وصفها بأنها "تفتقر للخبرة" في إدارة التفاوض وموازنة التنازلات الجذرية التي من شأنها أن تحدث اختراقًا في تحقيق الانتقال الديمقراطي.
ولفت المحلل السياسي إلى التوتر في العلاقة بين المدنيين والعسكريين، وما أفرزه انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر من خلاف وحالة انعدام ثقة، بجانب غياب التوافق حول مشروع وطني لبناء الدولة المدنية الديمقراطية. مؤكدًا أن أزمة البلاد اليوم تتطلب التوافق بالحكمة والحنكة من القيادات السياسية المدنية والعسكرية، وضرورة إعادة النظر في نموذج التسوية السياسية السابق.
ويشير الكاتب الصحفي إلى العوامل الخارجية المرتبطة بالثورة السودانية ودور الآلية الثلاثية التي اعتبرها أكثر فعالية من مجموعة من المبادرات المحلية التي تفتقد -وفق تعبيره- للزخم والمحفزات التي تقود لإنجاز مساع التوافق.
وختم الصحفي بصحيفة الديمقراطي، بالإشارة إلى حجم التحديات التي تواجه المشهد السياسي في السودان الآن، وضرورة توحيد قوى الثورة حول "الحد الأدنى" الذي اعتبره أساسيًا وحاسمًا لإسقاط الانقلاب. وحذر من مآلات الواقع السياسي التي قد تقود -حسب وصفه- إلى الانزلاق في منحدر الحروب الأهلية والانقسام والانهيار الشامل.
مراجعات مُلحة
من جهته، يرى الناشط السياسي وعضو لجان مقاومة كافوري محمد عبيد، أن هذا انقلاب عسكري على الدستور، قائلًا إن "الأزمة الآن معقدة بسبب التشتت بين القوى المدنية الثورية والسياسية والانقسام داخل بعض المؤسسات الثورية المرتبط بالتكتيكات".
وأردف العبيد في تعليق لـ"الترا سودان": "نحن ملتزمون بتوصيف ميثاق لجان المقاومة للأزمة على أنها انقلاب عسكري يجب إزاحته فورًا ومراجعة الترتيبات الدستورية التي أفرزت هذا الواقع والعمل على إسقاطه لصالح السلطة الشعبية الديمقراطية".
وكانت لجان مقاومة ولاية الخرطوم قد أعلنت، في "ميثاق تأسيس سلطة الشعب" الذي اطلع عليه "الترا سودان"، رفضها أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع الجهات العسكرية، والتمسك بالاستمرار في المقاومة السلمية حتى إسقاط "انقلاب" تشرين الأول/أكتوبر ومحاسبة الضالعين فيه من القوى المدنية والعسكرية، وإلغاء الترتيبات الدستورية القائمة وتأسيس وضع دستوري جديد عبر إعلان دستوري مؤقت.
وقال: "إن هيكل السلطة الشعبية الديمقراطية الذي طرحه ميثاق لجان المقاومة مفتوح للنقاش مع كل الأجسام الثورية"، مشددًا على ضرورة مناقشة التكتيكات السياسية لإسقاط السلطة الانقلابية وإمكانية بناء التحالفات السياسية وإعادة صياغة وثيقة دستورية عبر مجلس تشريعي منتخب.
محاولات يائسة
أما المحلل السياسي حسين سعد، فيؤكد أن التمهيد للمشهد المرتبك الذي يواجه السودان اليوم انطلق قبل وقت باكر، عبر افتعال الأزمات وحرب التصريحات التي سبقت قرارات "العسكر"، من أعضاء نافذين في المجلس السيادي في ظل تحركات سياسية لأنصار النظام السابق، وأضاف: "تم تعطيل بعض الملفات المهمة للحكم الانتقالي كعمل لجنة إزالة التمكين والتهرب من تكوين المفوضيات المستقلة".
ويشير سعد في حديثه لـ"الترا سودان"، إلى أن العزف على أوتار الخلافات بين المدنيين في التبرير لقرارات البرهان "أمر غير منطقي"، لأن الخلاف وسط طيف واسع من التنظيمات الثورية طبيعي وظاهرة صحية للتعبير عن وجهات النظر. ويقر المحلل السياسي بأن القصور طال بعض جوانب العمل التنفيذي، وفي الجانب الآخر عجزت القوى التي تسيطر على الحكم اليوم عن تشكيل حكومة من الأساس.
ونبه المتحدث، إلى الضغوط الاقتصادية ودورها في احتقان المشهد اليوم، مشيرًا إلى أن الانقلاب يفتقد الدعم السياسي والاقتصادي، بينما يواجه يوميًا بـ"الرفض الشعبي" الذي واجهته السلطات -حسب توصيفه- بعنف مفرط أدى إلى إصابة المئات واستشهاد العشرات من المتظاهرين، بجانب حملات اعتقالات طالت ناشطين سياسيين وأعضاء لجان المقاومة.
ولفت حسين سعد، إلى تحديات تواجه هيكلة اتفاقية "سلام جوبا"، والتي اعتبرها سببًا للخلاف وليست مخرجًا من الحرب، لجهة أنها لم توفر إجابات لأسئلة بعض الأطراف الحقيقية للسلام. وعاد ليربط الأزمة باختطاف مؤسسات الدولة وغياب الجهاز التنفيذي عن الحوار في هذه الاتفاقية.
محلل سياسي: ما حدث يمثل رِدة عن طريق الانتقال ومحاولات يائسة للعودة إلى العهد المظلم
ويستنكر سعد، مواقف بعض القوى السياسية وحركات الكفاح المسلح التي دعمت وأيدت الانقلاب على السُلطة الدستورية، مؤكدًا على أن هذه القرارات تمثل تراجعًا عن قيم وسياسات الثورة السودانية، وتابع: "هذه القوى تنازلت عن حقها في السلطة الشعبية لصالح مجموعة ضيقة تحاول العودة إلى الوراء".
وختم المحلل السياسي حديثه لـ"الترا سودان" بالقول بأن الأجسام الثورية التي لازمت الشوارع منذ 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، هي الضامن الوحيد لإنهاء "الوضع المأزوم" الذي يعيشه السودان اليوم، مشددًا على أن الإجابة على التساؤل الذي يطرحه التقرير واضحة: "ما حدث يمثل رِدة عن طريق الانتقال ومحاولات يائسة للعودة إلى العهد المظلم".