انتهت انتخابات الهيئة المركزية لحزب الأمة قبل أيام من حسم السباق لمنصب الأمين العام لحزب الأمّة لصالح السيد؛ الواثق البرير الذي حاز على ثقة (٢٧٩) عضوًا/عضوةً متفوقًا على كل من السيد المستشار البشرى عبدالحميد (١٦٥ صوتًا)، والسيد؛ عبدالرحمن أحمد صالح (١٥ صوتًا).
وقد أثار الخبر تساؤلات وحوارات كثيرة، استوقفني منها تعليق ساخر للأخ عبدالحكيم عبدالرحمن نصر الشهير (بحكيم شمية) في صفحته بالفيس بوك، وما أعقبه من مساجلات بينه والأخت أميرة الشيخ (المؤتمر السوداني) والأخ وليد عكاشة من (حزب الأمة القومي)، جاء في بوست حكيم شمية: "الأب رئيسًا، الابنة نائبة، الصهر أمينًا عامًا، عبدالرحمن معتذرًا والشعب معاق فكريًا".
يرى المراقبون برغم الإجراءات الانتخابية السليمة إلّا أن ثالوث قيادة الأمة الجديد يشير إلى أن الديمقراطية ليست بخير
الهيئة المركزية لحزب الأمة (أكثر من ٤٨٠ عضوًا/ةً) هي جسم منتخب من المؤتمر العام (أكثر من ستة ألف عضوًا/ةً)، وبالرغم من الإجراءات الانتخابية السليمة إلّا أن ثالوث قيادة الأمة الجديد (الأب، الابنة، الصهر) كان يقول على لسان المراقبين إن الديمقراطية ليست بخير.. فهل هي كذلك؟
اقرأ/ي أيضًا: اجتثاث ثقافة الموت
رغم أن سنغافورة تمارس ديمقراطية شبيهة بالبرلمانية البريطانية إلا أنها كثيرًا ما توصف من قبل المراقبين بأنها ديكتاتورية وذلك لسيطرة حزب العمل الشعبي (People’s Action party) على مقاليد الحكم منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، فمنذ أصبح لي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة في ١٩٥٩، وإلى انتخابات ٢٠١٥، حيث حصل حزب العمل على (83) مقعدًا مقارنة بستة مقاعد لحزب العمال، بينما لم يحصل الحزب الديمقراطي على أي مقعد، وتقريبا ظل عدد المقاعد حول هذا الرقم طيلة هذه السنوات. الديمقراطية مطبقة والاقتراع مفتوح، المعارضة موجودة ومسموح لها بالممارسة لكنها لا تفوز..!
هذا ما قاله بعض المراقبين، إن الديمقراطية لا تبدو بخير في سنغافورة، حيث وصفتها وحدة الرصد الإيكونيميست في ٢٠١٨، بأنها ديمقراطية معيبة كما اتهمتها فريدوم هاوس بأن الصحافة غير حرة في ٢٠١٥، وبرغم ذلك نجد سنغافورة تصنف باستمرار على أنها البلد الأقل فسادًا في آسيا ومن بين الأنظمة العشرة الأوائل الأكثر شفافية في العالم من قبل منظمة الشفافية الدولية. كما صنفت مؤشرات حوكمة البنك الدولي سنغافورة بدرجة عالية في سيادة القانون والسيطرة على الفساد وفعالية الحكومة، بينما ذكر مراقبون محايدون إن الديمقراطية في سنغافورة "حرون" ، أي غير مستجيبة!
في دفاعه عن الديمقراطية في حزب الأمة تحدث الأخ وليد عكاشة ببساطة، سأحاول أن ألخص بلغتي هنا أفكاره الأساسية، حيث يرى وليد أن انتخاب الواثق البرير تم عبر عملية ديمقراطية لا تشوبها شائبة، وإذا كانت قواعد الأمّة تفضل أن يتقدمها آل المهدي وصهرهم فهذا شأنهم، وهو شأن داخلي للحزب وأن التشكيك الذي تمتلئ به الأسافير هو محض وصاية على عقول وقلوب المنتسبين للحزب، وتناوب أفراد الأسرة الواحدة على قيادة الحزب ليست حكرًا على حزب الأمة، وليست عملًا غير ديمقراطي ومن ذلك بوش الأب والأبن وبيل وهيلاري كلينتون وآل غاندي على قيادة حزب المؤتمر الهندي حزب الاستقلال.
اقرأ/ي أيضًا: عام على الثورة.. الشباب من الاحتجاج إلى السياسة
ولكن هل ما يحدث في حزب الأمة هو شأن داخلي؟ وهل مستقبل الحراك الديمقراطي في البلاد ككل يتأثر بما يدور في الأحزاب؟ وهل نحن بحاجة لتطوير وإجادة الممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب أولًا قبل نقلها إلى مؤسسات الدولة التي بالضرورة بها مؤسسات غير ديمقراطية بطبيعتها؟
منذ مطلع القرن العشرين طالبت القوى التقدمية بأن تكون زيادة التشاركية في جذر العملية الديمقراطية، عقيدة الديمقراطيين التشاركيين اليوم، والتي تبدو تحديًا نظريًا وفعليًا طالما أظهرت غالبية الناس زهدًا ولا مبالاة في العملية السياسية الانتخابية/الفعل الديمقراطي.
حين تنظر إلى حال الأحزاب السياسية السودانية في مجملها تقريبًا يبرز أمامك قانون القبضة الحديدية الأوليغاركية -الأقليّة المتنفذة- الذي قدمه روبرت مشيلز كنظرية سياسية في كتابه الأحزاب السياسية الصادر 1911: "إن حكم الأوليغارك/النخب في أي منظمة ديمقراطية هو جزء من الاحتياجات التكتيكية والفنية يبدو محتومًا كقانون حديدي". و"إن التطور التاريخي يسخر من الإجراءات الوقائية التي تم تبنيها للوقاية من الأوليغاركية/تحكم النخبة. روبرت مشيلز كان يصر على من يقول منظمة/ تنظيم أن يقول أوليغاركية كلازمة!
في الدولة فقط قلة تنخرط في فعل سياسي وتشارك بحق، فما بالكم بالأحزاب السياسية التي يكون الاختلاف فيها على الرؤى محدودًا
ما نلوم عليه حزب الأمة هو لغم مدفون في طبيعة العمل التنظيمي نفسه، بحكم أن العمل التنظيمي بالضرورة يتم فيه إيكال العمل لفئة منتخبة أو بالتعيين لتديره وستكون النخب حاضرة في ذاكرة المقترعين بحكم تعليمها وتنفذها.. غير أن هذا اللغم أيضًا جاذب وله إغراء بما توفره السلطة من فرصة لإنفاذ الرؤى والسياسات ومنح القدرة القانونية على إنفاذ الحلم، إذا أضفنا إلى هذا طبيعة الناخبين أنفسهم بصورة عامة والتي في العادة لا مبالية كثيرًا على مستوى العمل الديمقراطي، في الدولة فقط قلة تنخرط في فعل سياسي وتشارك بحق، فما بالكم بالأحزاب السياسية التي يكون الاختلاف فيها على الرؤى محدودًا، والتنافس بين مرشحين عادة في من سيقدم رؤى الحزب وكيف سيقدمها، وليس للقيام بتغيير جذري في اتجاهات الحزب، لذلك التغيير في العادة هو تغيير وجوه وليس سياسات أو رؤى، واللحظات التي قامت كانت فيها المنافسة بين المرشحين من أجل اختلافات في الرؤى والاتجاهات انتهت عادة في غالبية الأحزاب السودانية بانشقاقات، ومن ذلك الانقسام بين الترابي وجماعة الصادق عبد الماجد الذي شق الاتجاه الإسلامي لحركة الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق، حق، أو جماعة الشفيع خضر من الحزب الشيوعي، جماعة مبارك الفاضل، جماعة مادبو، و آخرين مثلًا من حزب الأمة، جماعة محمد جلال هاشم ومؤتمر الطلاب المستقلين من المؤتمر السوداني، وحزب البعث والاتحادي الديمقراطي والحزب الجمهوري وغيره.. اختبرت كثير من الأحزاب اختلافات في الرؤى أو طريقة العمل فانقسمت.
وبالتالي جوهر الأزمة في العمل الحزبي الديمقراطي هو في عدم القدرة على زيادة التشاركية بصورة حقيقية قادرة على ضخ دماء وأفكار جديدة، وربما يتساءل أحدهم ما الداعي أصلا لدماء جديدة إذا كنا لا نسمح للأفكار والطرق الجديدة في العمل أن تسيطر؟ حتى العمل القديم نفسه حين يقدم من خلال وجه جديد في العمل فهو قادر على خلق تحالفات جديدة.
اقرأ/ي أيضًا: تكامل أدوار مواقع التواصل الاجتماعي ولجان المقاومة
دعيت أيام ثورة أيلول/سبتمبر ٢٠١٣ إلى اجتماع مفصلي به الكثير من القادة السياسيين والنقابيين، الذين سرعان ما انفضوا غاضبين لأنهم جمعوا في ذات المكان مع أعداء قديمين أو اقترح أعداءهم لأعمال بعينها، هذا البلد لا زالت تديره تقريبًا ذات الوجوه السياسية منذ الاستقلال، والتي خلقت الكثير من الحواجز والضغائن مع بعضها البعض بشكل صار عبئًا على العمل السياسي والتغيير في السودان.
من المهم أن تأتي وجوه جديدة تحرك الساحة السياسية وتخلق تحالفات جديدة.. تصنع خصومًا يخصونها حتى إن ترتكب أخطاء جديدة!
حين استعان وليد عكاشة بحزب المؤتمر الهندي حزب الاستقلال ليقول إن آل غاندي كآل المهدي ظلوا يقودون الحزب.. الحقيقة إن آل المهدي وحزب الأمة في حال أفضل كثيرًا من حزب المؤتمر الهندي، الذي حوله أحفاد جواهر لال نهرو المناضل العظيم من أول حزب قومي في قلب الامبراطورية البريطانية في عموم آسيا وإفريقيا منذ العام ١٨٨٥، والقائد لاستقلال الهند والمجمع عليه في قلوب معظم أهل الهند، إلى شركة عائلية قابضة فشلت في الحصول على أكثر من (44) مقعدًا من أصل (543) مقعدًا في انتخابات ٢٠١٤. من المهم جدًا أن يكون مثال وليد عكاشة حاضرًا في ذهن أعضاء حزب الأمة وكل الأحزاب. حين نستسلم لإغراء الأوليغاركية.. نخسر كثيرًا ما نزفنا وضحينا لأجله منذ عقود.
التجاني الماحي: إن الشخص الذي توكل له قيادة الناس ويحرص على أن يظل هو الشخص الوحيد المناسب لها. هو شخص لم يعمل بفاعلية لجعل مسيرة العمل تستمر من بعده
حينما كنت أكتب سيرة الراحل الدكتور التيجاني الماحي استوقفتني تدوينه لقصة انتخاب أحد أصدقائه الشخصيين لإدارة جامعة الخرطوم، قال لم أكن مهتمًا حقيقة في البداية لموضوع من يدير الجامعة حين أتاني صديق آخر يستفسر عني لمن أمنح صوتي. ذلك الحوار لفت نظر التيجاني إلى أن الذين قرروا أن يمنحوا ثقتهم ذلك اليوم إلى صديقه للدورة الثانية على التوالي دافعوا عن رأيهم بأنه لا يوجد شخص بمثل تأهيله وكفاءته. يقول التيجاني الماحي إنني اعترضت على ترشيحه لذات السبب وقلت إن الشخص الذي توكل له قيادة الناس ويحرص على أن يظل هو الشخص الوحيد المناسب لها هو شخص لم يعمل بفاعلية لجعل مسيرة العمل تستمر من بعده بإعداد من يخلفه بكفاءة وفاعلية.
على الأحزاب السياسية السودانية أن لا تستسلم لإغراء الأوليغاركية. أن تناضل من أجل إيجاد صيغة جديدة لزيادة مشاركة الناس في العملية السياسية والوقوف على قضاياهم واختيار من يمثلهم حقيقة.
في إحدى تلك المساجلات على صفحات الفيس بوك عن الواثق البرير، أن الرجل ذو فكر مستنير ومدافع عن العلمانية أمام مشروع الصحوة الإسلامية، إن صح هذا الأمر فهل نحن موعودون بتثوير جديد للحزب دون انشقاقات؟ على كل تبدو الديمقراطية في حزب الأمة بخير ولكنها "حرون" لا تستجيب.
اقرأ/ي أيضًا