29-نوفمبر-2019

قيادات حزب المؤتمر الشعبي في مؤتمر صحفي أواخر تشرين الثاني نوفمبر الجاري (Getty)

ألقي القبض على القيادي الإسلامي علي الحاج ضمن مدبري إنقلاب 30 حزيران/يونيو 1989، على الفور توارى ثلاثون عامًا من حكم السيف والنطع، توارت كل جرائم الحرب في جنوب السودان وشماله، توارت بيوت الأشباح وأقبية التعذيب وحكم العسس وطغيان المخابرات والمصادرة الكاملة لكل الحريات والحقوق، توارى تدمير الاقتصاد السوداني بمتواليات هندسية، توارى تشريد آلاف الموظفين والعمال والضباط والجنود بسيف الفصل للصالح العام الذي سلطه النظام البائد على كل من لم ينتم له، توارى الفساد ونهب المال العام وتسييس القبيلة وإضفاء الطابع القبلي البدائي على جهاز الدولة والسوق والمجتمع السوداني، توارى الإنحطاط الشامل الذي سيق إليه السودان من أذنيه، توارت كل الدماء والدموع التي لم تتوقف ولا لساعة واحدة طيلة (30) عام رمادة، ولم يبق سوى وجه علي الحاج ورفاقه، الذين لم يبق منهم سوى أنهم إسلاميون أبرياء مظلومون ينبغي إطلاق سراحهم فورًا وإلا فإن هذه حرب على الإسلام بألف ولام العهد، وإلا فإن هذا استهداف للإسلاميين تموله المحاور الأجنبية، وإلا فإن الثورة المضادة قد انتصرت!

اقرأ/ي أيضًا: "مدنياااااااااو".. مقدمة لمرجعية أكاديمية

ابتدأ عهد حكومة الإسلاميين بمسمار دُق في الرأس أنهى حياة الطبيب الشيوعي علي فضل في أحد بيوت الأشباح، وانتهى عهدهم بتصفية المعلم الإسلامي أحمد الخير في بيوت الأشباح

ابتدأ عهد حكومة الإسلاميين بمسمار دُق في الرأس أنهى حياة الطبيب الشيوعي علي فضل في أحد بيوت الأشباح، وانتهى عهدهم بتصفية المعلم الإسلامي أحمد الخير في بيت أشباح آخر، يريد بعض الإسلاميين من منسوبي حزب المؤتمر الشعبي الذي طرده البشير من السلطة مع نهاية الألفية الماضية محاسبة قاتل المعلم، ولكنهم يعتقدون في الوقت عينه أن محاسبة قاتل الطبيب –الذي قتلوه هم قبل طردهم من الحكم- هو انتقام وتشف واستهداف للإسلاميين، بل وللإسلام نفسه! يتحدثون دائمًا عندما يكونون في المعارضة عن الحريات وحكم القانون وحقوق الإنسان، ولكن حينما يكونون موضوعًا لحكم القانون سرعان ما يعودون لمبدأ "أنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". فصفة الإسلامي في عرفهم هوية جامعة تشمل حتى من ينتهكون كل المحرمات الإسلامية والإنسانية. فقط انتم لهذا التنظيم ثم افعل ما شئت ولن يحاسبك أحد لأنك إسلامي! دائمًا ما تقترن سردية المظلومية مع سردية التفوق، كما يقول المفكر السوري ياسين الحاج صالح، الذي يقول أيضًا "لأن السرديات استراتيجيات هوية، فإن الجماعات المظلومة هي نفسها الجماعات المتفوقة. لدينا سرديات تفوقٍ شيعية وعلوية وسنية وكردية ويهودية، تستحضر خصائص وميزات مختلفة، حقيقية أو مختلقة، مُهوّلة دومًا، لكنها ليست تقريرات أمينة لإنجاز حقيقيٍ ذي قيمةٍ عامة، بقدر ما هي خطابات تسوِّغ الامتيازات والاستثناءات".

اقرأ/ي أيضًا: رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟

تحاول النخب الإسلاموية السودانية حاليًا إيجاد مخرجها الآمن من ما ورطت فيه نفسها من جرائم ونتهاكات بإنتاج سردية مظلومية، تربط فيها بين محاسبة المجرمين والمفسدين في السودان، وبين هراوة محمد بن سلمان، ومحمد بن زايد التي تطارد الإخوان المسلمين ظلمًا في أزقة الدنيا. الإسلاميون مظلومون في مصر إذًا هم مظلومون في السودان! ومحاسبة علي الحاج في محاكمة علنية مع تمكينه من حقوقه القانونية كافة، تساوي تمامًا اعتقال شباب الإسلاميين وإخفاءهم دون محاكمة في مصر. إن كان الإسلاميون مظلومين في مصر فهم في السودان ظالمون، كما كان الشيوعيون ظالمين في روسيا مظلومين في إيران مثلًا. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نقبل تحويل ما فعله السيسي بكل المعارضة المدنية ومن ضمنها الإسلاميون إلى "هولوكست" جديد لتبرير إفلات إسلاميي السودان من العقاب، بل لا نفهم أساسًا كيف يستنكرون محاكمة المتهمين من حزبهم، وهم من كانوا يقولون في سياقات الكيد السياسي لطاردهم البشير عندما طلبته المحكمة الجنائية الدولية "إن كان بريئًا فليذهب وليبرأ نفسه هناك"، أوَ ليس البشير نفسه إسلاميًا؟

يقول بعض إسلاميي السودان أن محاكمة الانقلابيين، وفتح ملفات انتهاكات الأيام الأولى للإنقاذ هو انتقام سياسي، ومقدمة لتصفية الإسلاميين بأمر المحور العربي المعارض لهم، وعليه فهم ضد هذه المحاكمات بمنطق سد الذارئع. مع أن الإفلات من العقاب وتطبيع السلوك الانقلابي هو الذريعة الأخطر التي ينبغي سدها، ففي تجارب الربيع العربي التي أفضت إلى الحريات العامة وحقوق الإنسان وحكم القانون لم يتعرض الإسلاميون السنوات الأولى لأي مضايقات كما في تونس مثلًا. نحن هنا إزاء نظرية مؤامرة تريدنا أن نعطي أولوية لمخاوف هذه الجماعة وهواجسها على قيم الديمقراطية نفسها، وحيثما وجدت سردية المظلومية صاحبتها على الفور نظرية مؤامرة. يقول ياسين الحاج صالح في ذات بحثه عن سرديات المظلومية "نظرية المؤامرة، بما هي توجّسٌ لا يزول من الاضطهاد، تشعر به جماعةٌ لا تشك بأهميتها الخاصة، هي أحد وجوه المناخ الاجتماعي والنفسي الخاص بالجماعات".

كان حزب المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي أسسه الترابي من أهم أحزاب تحالف المعارضة، لكنه اختار طوعًا ترك التحالف المعارض والدخول في آخر حكومات عهد الإنقاذ البائد

كان حزب المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي أسسه الترابي من أهم أحزاب تحالف المعارضة، لكنه اختار طوعًا ترك التحالف المعارض والدخول في آخر حكومات عهد الإنقاذ البائد، بعد دعوة الحوار الوطني التي رفضتها بقية الأحزاب المعارضة الرئيسية. عندما اتخذ المؤتمر الشعبي ذلك الخيار أيضًا كان التبرير هو الخوف من مؤامرة تقصي الإسلاميين، بعد انقلاب السيسي في مصر، بل أن هذا الخوف من الإقصاء وسردية المظلومية الإسلاموية يستخدمه البعض لتبرير إنقلاب 1989 نفسه! وهنا تبرز الوظيفة السياسية لسرديات المظلومية التي تستخدمها النخب لتبرير الأخطاء وشرعنة الاستثناءات. إن مستقبل الإسلاميين مرتبط بهجر هذا النمط من التفكير الهوياتي، والانتقال لمقاومة الظلم، والتعبير عنه بلغة الاقتصاد والسياسة والقانون وليس الهوية والأصول الجوهرية، وإن هم لم يدركوا ذلك فلن تقوم لهم قائمة في بلد عاف شعبها ولفظ الاتجار بالدين وأهله مرة وإلى الأبد.

 

اقرأ/ي أيضًا

"دهماء" الاقتصاد السوداني وفرص نجاح الانتقال

الحقّ في الفوضى