أكد المفوض السامي لمفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أنه منح الأولوية للسودان في جولته الأولى في العالم بعد توليه منصبه قبل شهور لأنه يتضامن مع شعب السودان في هذه "اللحظات المصيرية" من تاريخ البلاد، لافتًا إلى أنه يريد إيصال" رسالة قوية" بأنه يجب أن تكون حقوق الإنسان في "صميم عملية الانتقال".
قال إن استجابة السلطات للإنذار المبكر للعنف القبلي ضعيفة ما يخلق تصورات بأن السلطات لا تستجيب لحماية المدنيين من مختلف القبائل
وقال المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة فولكر تورك في مؤتمر صحفي أمس الأربعاء إلى جانب تقرير نشره في ختام زيارته إلى السودان التي استمرت لأربعة أيام حسب ما رصد "الترا سودان" - قال إن "التقدم المهم" الذي حصل بين عامي 2019 و2021 نحو الإصلاح القانوني والمؤسسي توقف بسبب الاستيلاء العسكري على السلطة في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021. وزاد: "نجد أنفسنا الآن في مفترق طرق حاسم".
وقال البيان الصادر عن المفوض السامي لحقوق الإنسان في ختام جولته إلى السودان: "بينما تستمر المفاوضات السياسية نحو إطار لانتقال جديد، أحث جميع المعنيين على تنحية المواقف المتشنجة، والتنازع على السلطة، والمصالح الشخصية، والتركيز على المصالح المشتركة للشعب السوداني لاتخاذ خطوات جريئة نحو التوافق وتعزيز حماية حقوق الإنسان لجميع السودانيين كقوة دافعة".
خطورة الراهن
وأوضح المفوض السامي أن نصف السكان يكسبون نحو دولارين فقط في اليوم.
ولفت بيان مكتب المفوضية إلى تضاعف تكلفة الكهرباء بزيادة (25) ضعفًا عن العام الماضي وتضاعف سعر الخبز، وكذلك أسعار الوقود. وحذر المفوض السامي من "حالة انهيار" يشهدها الاقتصاد السوداني مع عواقب وآثار "وخيمة" على الفئات "الهشة" في السودان.
وأشار تورك إلى أن بعض أنحاء السودان -بما في ذلك دارفور والنيل الأزرق وكردفان- وقعت فيها اشتباكات مسلحة وهجمات ضد بعض المجتمعات المحلية.
وأشار المفوض الأممي إلى "المظالم التاريخية" والتنافس على الأرض والمياه والموارد الأخرى وتدفق الأسلحة على أنها من بين العوامل التي تدفع إلى الاشتباكات بين الإثنيات.
وحذّر المفوض السامي مما قد يؤدي إليه ضعف قدرة الدولة والتواطؤ في بعض الحالات من تفاقم انعدام الأمن، منوّهًا بأن استمرار الإفلات من العقاب يغذي هذه الاشتباكات.
وقال فولكر تورك إن السودان هو أحد البلدان التي من المحتمل أن تتأثر بشدة بآثار التغير المناخي، لافتًا إلى أنه واحد من أقل البلدان استعدادًا للاستجابة لها. وتابع: "يعد تغير المناخ تهديدًا مضاعفًا يمكن أن يؤجج التوترات بشأن الأرض والموارد بشكل أكبر، إن لم يتم التخفيف والتنبيه له بعناية".
أراضي غنية وفقر
أوضح تورك أن ثلث الشعب السوداني بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، فيما يبلغ عدد المشردين داخليًا (3,7) مليون شخص، منهم أكثر من (211) ألف مشرد منذ بداية هذا العام. وأردف: "في السودان سبعة ملايين طفل خارج المدرسة وهذه أرقام مذهلة".
وقال تورك إن هناك احتجاجات شبه يومية من قبل الشباب، تطالب بتسليم السلطة للمدنيين، ومن أجل السلام والحرية والعدالة، مؤكدًا أن هناك حاجة وضرورة للحكم الرشيد وعقد اجتماعي جديد بين مؤسسات الدولة والسكان "يرتكز على حقوق الإنسان".
ووصف المفوض الأممي الوضع في السودان بـ"القاتم"، لكن أدوات التخلص من بعض هذه التحديات في متناول اليد - على حد تعبيره. وتابع: "هذه الأرض الغنية الطبيعية والأراضي الصالحة للزراعة وغالبية السكان من فئة الشباب، هذه الثروة لشعب السودان - وللأجيال الحالية والمستقبلية إنهم جميعًا بحاجة إلى الاستفادة منها وليس القلة فقط. ولذلك، فإن حكمها وإدارتها الرشيدتين يجب أن يحظيا بأولوية عليا".
ولفت فولكر تورك إلى أن هناك مجتمعًا مدنيًا "نشطًا وحيويًا" لديه رؤية لسودان المستقبل، لبناء البلاد بمشاركة "مجدية" من جميع المكونات لصالح الجميع.
وأضاف: "هذا بلد به سكان شباب بشكل لا يصدق، يبلغ متوسط أعمارهم 9- 18عامًا فقط في الوقت الذي أمضيته هنا، لاحظت رغبتهم في التغيير، وإمكانية بين الشباب لدفع مستقبل بلادهم إلى الأمام". وأردف: "إنهم يعيشون ويتنفسون حقوق الإنسان".
مؤسسات تمثل الشعب
ورأى المفوض الأممي أن أحد أكبر التحديات هو بناء الثقة بين السلطات والشعب بعد عقود من القمع، لافتًا إلى أن الثقة في المؤسسات الحكومية والقضائية في السنوات القليلة الماضية المضطربة أصبحت "متدنية".
وشدد تورك على ضرورة أن تكون مؤسسات الدولة ممثلة للشعب، ويمكن للشعب الوصول إليها وهي تعمل من أجل الشعب. وأردف: "هذا يعني الشمولية الحقيقية والمشاركة الهادفة للأفراد من جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك النساء وخاصة الأكثر هشاشة". وزاد: "في مناقشاتي مع السلطات، سلطت الضوء باستمرار على هذه الحاجة إلى اتخاذ تدابير لبناء الثقة لكسب ثقة الناس". وتابع: "وشددت على أن احترام حقوق الإنسان يبني هذه الثقة".
وقال فولكر تورك: "لقد رأينا الاستخدام المفرط للقوة ضد المتظاهرين في الخرطوم، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية". وزاد: "وفقًا لمصادرنا الخاصة والطبية، منذ الاستيلاء العسكري على السلطة، قُتل ما لا يقل عن (119) شخصًا وأصيب أكثر من (8,050) بجروح - العديد منها غيرت حياتهم". وأردف قائلًا: "أخبرتنا إحدى النساء عن ابن عمها، لاعب كرة قدم شاب، وقد أصيب برصاصة في ساقه وقد لا يتمكن من اللعب مرة أخرى". وأضاف: "أخبرني أحد سائقي العربات كيف أنه لم يعد قادرًا على إعالة أسرته بعد أن أطلق عليه النار من قبل قوات الأمن أثناء مشاركته في الاحتجاجات، وخضع لتسع عمليات جراحية واضطر إلى بتر ساقه".
طلب من الشرطة عدم احتجاز المتظاهرين وإيجاد طريقة للتعامل مع التجمعات
ولفت المفوض الأممي إلى أنه استمع إلى شهود وآخرين فيما يتعلق باعتصام الثالث من حزيران/يونيو 2019، حيث قُتل أكثر من (100) شخصًا وما زال الكثيرون في عداد المفقودين. وقال إنه نقل إلى السلطات أنه يجب تفعيل المساءلة "على وجه السرعة وبطريقة شفافة".
وقال تورك: "قبل الاحتجاجات المخطط لها غدًا، أدعو السلطات المعنية بوضوح إلى توجيه قوات الأمن للرد على المظاهرات بما يتماشى مع قوانين ومعايير حقوق الإنسان". وشدد على أنه من حق الناس التجمع السلمي وأن الدولة ملزمة بضمان ممارسة هذا الحق دون خوف من إطلاق النار عليهم.
وقال فولكر تورك إنه بدلًا عن احتجاز المتظاهرين، طلب من الشرطة إيجاد طريقة للتعامل مع التجمعات وقبول حقيقة أن لديهم "مطالب مشروعة" وحثهم على عدم اعتبار المتظاهرين خصومًا.
عنف جنسي
وأشار تورك إلى أن هناك تقارير "مثيرة للقلق العميق" عن العنف الجنسي والنوع الاجتماعي ضد النساء والفتيات، فضلًا عن الرجال والفتيان.
وتابع: "تحقق مكتبي من (19) حادثة عنف جنسي ونوع اجتماعي ارتكبتها الشرطة في الغالب في سياق الاحتجاجات". وأضاف: "وقد يكون هناك المزيد، لكن ضحايا مثل هذا العنف غالبًا لا يتقدمون بادعاءاتهم بسبب وصمة العار الاجتماعية العميقة، وانعدام الثقة في نظام العدالة والخوف من الانتقام". وعزى المفوض الأممي ذلك إلى انعدام الثقة في المؤسسات الرسمية بما في ذلك الهيئات القضائية، مضيفًا أنه لم يُقدّم أي من المتورطين في هذه الحوادث إلى العدالة مما يعني "الإفلات من العقاب" – على حد تعبيره.
وقال تورك حول الوضع في إقليم دارفور إن المجتمع المدني والمشردون داخليًا سلطوا الضوء على تفشي حالة الإفلات من العقاب عن الانتهاكات والتجاوزات "الجسيمة" لحقوق الإنسان، بما في ذلك من جانب من قوات الدعم السريع. وكشف تورك أن مكتبه وثق (11) اشتباكًا "مميتًا واسع النطاق" أسفر عن مقتل (1,091) شخصًا على الأقل منذ يناير 2021. وذكر تورك أن الهجمات التي شنتها قبيلة "الرزيقات" العربية ضد القبائل غير العربية أسفرت عن "أكبر عدد من الضحايا".
وطبقًا للمفوض الأممي، فإن هناك توثيق للعنف الجنسي وكانت استجابة السلطات للإنذار المبكر بالعنف ضعيفة، مما يغذي التصورات بأن السلطات "غير راغبة في حماية المدنيين الذين ينتمون إلى قبائل مختلفة".
وتابع المفوض الأممي: "أخبرني أحد الشباب أن طموحه هو البقاء على قيد الحياة". ونقل المفوض الأممي عن الشاب قوله: "مع قلة التعليم ومياه الشرب الكافية وانتشار الأمراض وقلة الآفاق لا أعرف ماذا أفعل يوميًا ولا يمكنني الحصول على أي تطلعات". "أخشى أنه يتحدث نيابة عن العديد من الشباب، وهذا يحطم قلبي" - يضيف تورك.
بينما في ولاية النيل الأزرق أيضًا، منذ تموز/يوليو 2022، وقعت حوادث مميتة أسفرت عن مقتل (441) شخصًا على الأقل وفي ولايات كردفان، سجلت المفوضية مقتل أكثر من (150) شخصًا - طبقًا للمفوض الأممي.
وقال تورك إن المجتمعات المحلية تطالب بالأمن والعودة إلى ديارها وأراضيها وبنظام عدالة يعمل لصالحها، معربًا عن خشيته من استمرار دورات العنف، وداعيًا السلطات إلى الاستجابة لإشارات التحذير والإنذار المبكر واتخاذ تدابير فورية لوقف العنف، بما يتماشى مع التزاماتها الدولية في مجال حقوق الإنسان.
وأوضح تورك إن المحور الرئيسي من خلال كل التفاعلات التي أجراها في السودان هو الحاجة إلى المساءلة والعدالة.
ورأى تورك أن العدالة الانتقالية "ليست سهلة أبدًا" والمساءلة لها جوانب عديدة، لا سيما في سياق معقد مثل السودان، مع الإفلات الراسخ من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان على مدى عقود - على حد قوله.
ونوّه تورك بأهمية الاعتراف بالأضرار التي لحقت بالضحايا، وشدّد على ضرورة الاعتراف بـ"محنة الناجين" بصورة صحيحة وتكريمهم وجبر ضررهم. وأضاف: "يجب محاكمة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وتقديمهم للعدالة، بغض النظر عن انتماءاتهم".
لا عبور دون عدالة
وأوضح تورك أن الكفاح من أجل العدالة للناجين وأسر الضحايا أمر "بالغ الأهمية" لمستقبل البلد، بالإضافة إلى كونه حقهم الأساسي في قضاياهم الفردية.
وقال المفوض الأممي إن أي انتقال حساس، لافتًا إلى خصوصية حساسية الانتقال في السودان، وداعيًا جميع الأطراف المشاركة في العملية السياسية إلى بذل جهد إضافي والعمل من أجل استعادة الحكم المدني في البلاد "على وجه السرعة" وإنهاء "حالة عدم اليقين" التي قال إنها تركت الكثير من السكان في خطر.
وأضاف: "المهم أيضًا هو دعم المجتمع الدولي". "سنحتاج إلى كل الأيدي على سطح السفينة للاستعداد الآن ولليوم لليوم التالي سواء في السودان أو على المستوى الدولي" - يؤكد تورك.
قال تورك إن مكتبه في السودان على استعداد لتبادل الخبرات في مجال العدالة الانتقالية
وقال تورك إن مكتبه في السودان على استعداد لتبادل الخبرات في مجال العدالة الانتقالية، استنادًا إلى النماذج المستخدمة والدروس المستفادة من هذه العمليات في بلدان أخرى.
وختم بيانه بالقول: "السودان هو الأرض التي يلتقي فيها النيلين"، مضيفًا أن التقاء هذين الرافدين في نهر واحد عظيم هو "صورة قوية للوحدة والقوة المشتركة والإمكانات العظيمة"، معربًا عن أمله في المرحلة التالية من انتقال السودان.