في نهار السادس من نيسان/أبريل 2019 استطاعت الحشود المليونية للثورة السودانية للمرة الأولى منذ اندلاع شرارة الثورة في مدينة الدمازين بالنيل الأزرق ثم مدينة عطبرة بنهر النيل في كانون أول/ديسمبر 2018 ضد نظام حكم الرئيس عمر البشير أن تخترق الحواجز والحصار الأمني العنيف وتصل إلى وجهتها المعلنة أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بقلب العاصمة السودانية الخرطوم، بعد عمليات كر وفر استمرت لساعات، وقد مثلت تلك اللحظة الفارقة في التاريخ نهاية حتمية لنظام قمعي استنزف السودان وأهله وسامهم سوء العذاب لثلاثين عاماً حسومًا.
قصة أهل السودان مع الصحافة والإعلام قديمة وسابقة لقيام الدولة الوطنية الحديثة حيث صدرت أول صحيفة دورية باسم "السودان" في العام 1903
ومنذ ذلك التاريخ وحتى الإعلان عن تشكيل المجلس السيادي و مجلس الوزراء الانتقالي في السودان بعد مفاوضات ماراثونية بين ضباط اللجنة الأمنية للنظام البائد الذين عزلوا الرئيس المخلوع عمر البشير وانقلبوا على حكمه وممثلي قوى إعلان الحرية والتغيير التحالف الذي قاد الثورة ، ظل الإعلام السوداني في مجمله سواء كان مرئيًا أو مسموعًا أو مقروءاً مثار هجوم متواصل من الثوار نسبة لمواقفه المساندة للنظام البائد حتى سقوطه، ولأدواره التي لعبها في الهجوم على الثورة والإساءة المتواصلة للثوار، حتى صار مطلب تطهير الإعلام محل إجماع.
اقرأ/ي أيضًا: "خفافيش الظلام" تنقلب على عيساوي.. إقالة مدير التلفزيون السوداني
وقد شن سياسيون وناشطون هجوماً على وزير الثقافة والإعلام الأستاذ فيصل محمد صالح بعد تصريحاته التي قال فيها إن صلاحيات منصبه لا تتيح له عزل مدير التلفزيون القومي، وأن ذلك من صلاحيات رئيس الوزراء إلى أنه أحال توصية له بهذا الشأن لاتخاذ القرار، وقد سبقت تلك التصريحات أقوال منسوبة للوزير نفسه خلال لقاء جمعه بمنسوبي وكالة السودان للأنباء الرسمية بأنهم كحكومة لن يقوموا بإقصاء أو إعفاء أي شخص من منصبه، مما أثار عاصفة لم تنته من ردود الأفعال الغاضبة، وفي الحق إن كثيرًا من ذلك الغضب مستحق نسبة للتجيير الكامل بواسطة النظام البائد لجميع أجهزة الأعلام الرسمية لخدمة أهدافه وبث الأكاذيب والإساءة للمعارضين خدمة لأجندته ودفاعًا عنه حتى آخر رمق.. فما هي قصة الإعلام ومتى بدأ اختطافه بواسطة الأنظمة الديكتاتورية التي تعاقبت على الحكم في السودان؟!
الإعلام والديكتاتوريات
قصة أهل السودان مع الصحافة والإعلام قديمة وسابقة لقيام الدولة الوطنية الحديثة حيث صدرت أول صحيفة دورية باسم "السودان" في العام 1903 وقام بإصدارها تجار من الشام وكانت تصدر كل أسبوعين، ويعني ذلك أن الصحافة سبقت استقلال السودان بثلاثة وخمسين عامًا وتوالى منذ ذلك التاريخ إصدار الصحف والمجلات، وتلا ذلك انطلاق البث الإذاعي في نيسان/أبريل من العام 1940حيث انطلق بث إذاعة أم درمان من غرفة صغيرة بالعاصمة الوطنية وبساعات بث محدودة، وكان آخر المنضمين للمنظومة الإعلامية هو التلفزيون القومي الذي بدأ بثه في كانون أول/ديسمبر من العام 1962. والشاهد في كل تلك التواريخ أن أهل السودان عرفوا الصحافة والإعلام في وقت مبكر من تاريخهم الحديث واستبقوا بذلك غالب الدول العربية والأفريقية، وكان من الممكن أن يمتلكوا واحدة من أفضل تجارب الإعلام ولكن غلبة الأنظمة الديكتاتورية وسنوات حكمها المتطاولة منذ استقلال السودان في الأول من كانون الثاني/يناير 1956 والتي بلغت 54 عاماً من جملة سنوات ما بعد الاستقلال البالغة 63 عاماً في مقابل تسع سنوات هي كل حصاد العهدين الديمقراطيين الذين شهدهما السودان بعد ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة نيسان/أبريل 1985.
هذا الواقع الذي عرضناه انعكس خراباً متصلاً على أجهزة وعزلها بشكل منهجي عن لعب دورها في التحول لمؤسسات تخدم الشعب وتقدم رسالة إعلامية حقيقية تعنى بصيانة حرية التعبير وعكس الرأي والرأي الآخر والتعبير عن مختلف قوميات البلاد مما يسهم في صيانة الوحدة الوطنية ويلعب دورا في تجسير الهوة بين مختلف ثقافات أهل البلاد والمساهمة في تحقيق قدر من الديمقراطية يسهم في عملية البناء الوطني والتنمية، وفقدت بالتالي أجهزة الإعلام هويتها كخادم للشعب وليس الدولة.
الإعلام والوثيقة الدستورية 2019
وبالعودة لتصريحات وزير الإعلام حول الصلاحيات الواردة الوثيقة الدستورية وكيفية التعاطي مع هموم إصلاح الإعلام السوداني، يجدر بنا إلقاء نظرة على ما تضمنته الوثيقة أولاً، حيث تضمنت الوثيقة الدستورية ضمن اختصاصات وسلطات مجلس الوزراء المادة (١٦) البند (٦): (تعيين وإعفاء قادة الخدمة المدنية ومراقبة وتوجيه عمل أجهزة الدولة بما في ذلك أعمال الوزارات والمؤسسات والجهات والهيئات العامة والشركات العامة والشركات التابعة لها والمرتبطة بها والتنسيق فيما بينها وفقا للقانون).
من البند أعلاه يتضح أن ما ذكره الأستاذ فيصل محمد صالح وزير الثقافة والإعلام حول عدم امتلاكه صلاحية الإقالة صحيح، بموجب الوثيقة الدستورية، حيث أحالت الوثيقة الصلاحيات لمجلس الوزراء مجتمعاً، كما أنها عادت وحددت في فصل الأحكام المتنوعة البند (74) أنه باستثناء السلطات والصلاحيات الممنوحة لمجلس السيادة بموجب الوثيقة الدستورية، تؤول كل سلطات وصلاحيات رئيس الجمهورية ذات الطبيعة التنفيذية الواردة في أي قانون سارٍ لرئيس الوزراء.
ومن نافلة القول هنا الإشارة الى أنه يجوز لرئيس الوزراء أو المجلس تفويض صلاحياته للوزير المختص لاتخاذ ما يراه مناسبًا فيما يليه من أعمال وقرارات ولعل هذه الطريقة هي التي كانت سائدة في مختلف الحقب، حيث يمنح الوزير المختص الصلاحيات التي تمكنه من إنجاز أعماله وتتم محاسبته عليها بواسطة المجلس أو الرئيس في حالة السلطة الرئاسية أو رئيس الوزراء ولا يتم إلغاء قراراتها إلا بواسطة رئيس الوزراء مانح التفويض أو المجلس التشريعي.
وفي حالة الإعلام السوداني وبالنظر لما يعانيه من ضعف مهني وتهالك في البنيات التحتية وسيطرة من قبل عناصر النظام البائد فالأفضل أن ينال الوزير المختص التفويض الكامل بما في ذلك امتلاك القرار بالفصل والإبعاد للكوادر القيادية بالاعتماد من مجلس الوزراء، فليس من المنطقي أن يحيل الوزراء قضايا تهم وزاراتهم التي تولوا مسئولية إدارتها لرئيس الوزراء لاتخاذ القرار بشأنها، فعلى ماذا إذًا تولوا المسؤولية إذا لم يمتلكوا التفويض اللازم؟
اقرأ/ي أيضًا: عودة الجزيرة وسقطة العربية.. هوامش إعلامية حول توقيع اتفاق السودان
إن هذه الحكومة هي بالأساس حكومة تولت مقاليد الحكم انتقاليًا بتفويض ثوري منحته لها الجماهير، ولخصت أهدافها شعارات الثورة في تصفية أرث الدولة الشمولية المتطاولة، وإعادة تأسيس الإعلام السوداني على قيم الحرية والديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان تحريراً له من براثن الفكر الشمولي الذي استوطن بأركانه وحرفه عن رسالته وقيم الإعلام الحر، بعد إجراء عملية جراحية تطهره من عناصر النظام البائد المعادين للثورة والعاطلين عن المواهب الذين دفعت بهم الترضيات السياسية ومفاهيم الولاء والثقة التي رسخها النظام البائد كأساسيات للانخراط في العمل بجهاز الدولة وكمعيار للترقي الوظيفي.
لذا فالمهام التي تنتظر وزير الإعلام يمكن إجمالها في تطهير مؤسسات الإعلام الرسمية ووضعها على منصة الانطلاق من خلال البدء في تحويلها لمؤسسات مملوكة للشعب من خلال تحويلها لمؤسسات ملكية عامة كشراكة بين الدولة والمواطنين رداً لها للملاك الحقيقيين، وترسيخ حرية التعبير وحمايتها، ومراجعة وضعية الصحف المملوكة لعناصر من قيادات النظام البائد من ناحية قانونية، وإصلاح القوانين والتشريعات المرتبطة بالصحافة والإعلام بحيث تعبر عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإصلاح كافة المؤسسات ذات الصلة مثل مجلس الصحافة والمطبوعات وإعادة تعريف دوره ليصبح مجلس لصيانة مواثيق المهنة وحمايتها من الانتهاكات وصقل وتأهيل الصحفيين بتوفير برامج التأهيل والتدريب التي تساهم في رفع قدراتهم.
إن عملية تطهير وإعادة بناء المؤسسات الإعلامية والصحفية تعتبر عملية شائكة ومعقدة، وستواجه بمقاومة عنيفة من قبل عناصر الثورة المضادة في حقل الإعلام والصحافة، ولن يتم تنفيذها إلا بالتمسك بالروح الثورية في المقام الأول للمضي فيها وخوض معركتها للنهاية، وبدعم ومساندةالشرفاء في الوسط الإعلامي والصحفي وتحت مظلة دعم شعبي واسع، وبالاستعداد لملء الفراغ بكوادر مؤهلة تمتلك القدرة للنهوض بهذه المؤسسات، ومن خلال رؤية وسياسة متكاملة مستمدة من أهداف وشعارات ومبادئ الثورة يتم التوافق حولها، وعبر إصدار قرارات ثورية عاجلة محدودة لعزل القيادات المنتمية للنظام البائد على رأس هذه المؤسسات ومفاصلها.
إن عملية تطهير وإعادة بناء المؤسسات الإعلامية والصحفية تعتبر عملية شائكة ومعقدة، وستواجه بمقاومة عنيفة من قبل عناصر الثورة المضادة في حقل الإعلام والصحافة
وفي هذا الإطار ينبغي التشديد على أهمية تشكيل لجنة قومية تقوم بمراجعة شاملة للمؤسسات الإعلامية التابعة للدولة، على أن يكون بها تمثيل واسع ونوعي على سبيل المثال لا الحصر من المهم أن تضم أحد القضاة السابقين، وقانوني متخصص في قضايا العمل، وخبير في مجال الخدمة المدنية، وخبراء إعلاميين، إلى جانب تمثيل للمفصولين تعسفياً من الأجهزة الإعلامية، ومقرر من الوزارة المختصة على سبيل المثال، وذلك لضمان تغطية اللجنة المشار اليها لقضية مراجعة الأجهزة الإعلامية من كافة جوانبها وضمان العدالة والإنصاف في أداء عملها.
اقرأ/ي أيضًا:
شبكة الصحفيين السودانيين.. وقفة ضد تلفيق الإعلام السعودي
المرحلة الانتقالية في السودان.. صراع الأجندة الخفية