08-يناير-2022

اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب لحظة رفع علم السودان للمرة الأولى في العام 1956

عندما خرج محمد أحمد بن عبدالله في نواحي جبل قدير عام 1881 بدعوته المهدية، كان فريدريك نيتشه يقف على ضفة بحيرة "سيلفا بلانا" متأملًا صخرة هرمية الشكل أوحت له بفكرة "العود الأبدي". ولربما لا يكون هناك رابط ما بين نيتشه والمهدي غير أنهما قد غيرا التاريخ كل في ما سعى إليه، لكن ما نظّر له الأول أطبق على تاريخ السودان مرارًا حتى إنه ليكفيه الاستدلال بحال هذه البلاد منذ بداية  تأريخ الدولة السودانية الحديثة والتي تؤرخ بدايتها بثورة المهدي.

العود الأبدي حسب وصف نيتشه هو عود كوني، والذي نقع فيه هذه المرة ليس المراد منه ما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بـ"الحلقة الشريرة" بل تداعٍ أبعد من ذلك

العود الأبدي حسب وصف نيتشه هو عود كوني، والذي نقع فيه هذه المرة ليس المراد منه ما يعرف في أدبيات السياسة السودانية بالحلقة الشريرة (انقلاب عسكري - ثورة - فترة انتقالية - ديمقراطية) بل يقصد منه تداعٍ أبعد من ذلك باستدعاء لحظتين في التاريخ: إحداهما حراك مؤسس للحركة الوطنية متمثلة في تكوين مؤتمر الخريجين، واللحظة الثانية هي لحظة بداية  ثورة ديسمبر 2018 وما بعدها.

اقرأ/ي أيضًا: الدولة السودانية وماراثون الدستور

في مقاربة التاريخ نجد أن كلا اللحظتين قد أكملتا شرطهما التاريخي إكمالًا لمرحلة سابقة لكليهما "هبّة سبتمبر بالنسبة لثورة ديسمبر، وحركة اللواء الأبيض بالنسبة لمؤتمر الخريجين". اللحظة الأولى وهي ‏تكوُّن مؤتمر الخريجين الذي حدث نتيجة للعديد من الجهود التي قادها رواد الحركة الوطنية من الخريجين ورواد المنتديات الأدبية في مدن السودان، أبرزها الدعوات التي أطلقها أحمد محمد خير من جمعية ودمدني الأدبية، حيث قادت تلك الدعوات لانعقاد أول جمعية عمومية للخريجين بلغت (1080) شخصًا انتخب منهم (60) عضوًا ليكملوا المكاتب التنفيذية، لكن ما لبثت أن ارتهنت لجنته الستينية بقيادة كبار الخريجين الذين تقدموا للمناصب وفق العرف والتقليد، وذلك ما دفع الإدارة البريطانية أن تسمح بتكوينه والمصادقة على فعالياته لمعرفتها بأن في سدة القيادة "خريجون معتدلون"، ما يمكن وصفهم بأصحاب المصالح المتقاطعة في الوظائف التي تقلدوها، ولعلاقاتهم مع زعماء الطوائف والعشائر القبلية، وهو ما قاد مفجر الفكرة أحمد خير ومن خلفه جمعية ودمدني الأدبية ومجلة الفجر إلى الإحساس بخيبة أمل ان تركن مطالب المؤتمر إلى تحسين الوظائف والنأي عن القضايا الكبرى وتكوين جبهة وطنية من طبقة المثقفين.

لم يستمر الوضع طويلًا داخل أروقة الخريجين خصوصًا الصفوف الأقل/الصغار التواقين إلى منازعة المستعمر ومن خلفه الزعامات الدينية والقبلية، ويرون أن قيادة المؤتمر من الكبار الذين تطبعوا مع المستعمر في مجالس السمر والغرف المغلقة مما قادهم لتصحيح الوضع لاحقًا فصعد الصغار وصعدت معهم روح المواجهة التي ظهرت في أول خطاب حمل توقيع سكرتير المؤتمر إلى الإدارة البريطانية والتي وصف  فيها المؤتمر تلك المطالب بأنها "مطالب الشعب السوداني في الوقت الحاضر" .

هذه المذكرة التي حركت بفزع الإدارة البريطانية لمواجهة الوعي المتقدم باللحظة الزمنية والتي غفلوا عنها، ولتنامي الدعم الوطني والشعبي وإحساس جموع الخريجين بالمسؤولية تجاه وجود جسم يعبر عن أشواقهم. 

اقرأ/ي أيضًا: استقالة حمدوك والعودة إلى ما قبل 25 أكتوبر

قطعت تلك الإدارة تحركات المؤتمر، فعملت أولًا بسياستها الاستعمارية بتفريغ القوى داخل المؤتمر نفسه ومن ثم حشد الزعامات الدينية والقبلية ضدها، حيث عادت الإدارة لمقترح ابن المهدي "عبدالرحمن"، بتشكيل "المجلس الاستشاري لشمال السودان" ليكون المجلس المعنى والمحتكر للقضايا الوطنية، ويضم في قيادته زعماء الطوائف والقبائل وكبار الموظفين من تُضمن فيه صفات الولاء -وما أكثرهم حينها- فأدى بذلك المستعمر إلى انشقاق المؤتمر بين رجالات الحركة الوطنية الذين حددوا خياراتهم في الابتعاد عن حواضن الطائفة والقبيلة والتأسيس لحركة وطنية حقيقة، وبين من رأى في الطائفة سند ودعم في تعاونهم مع المستعمر للوصول بتفاهمات تحفظ موازين القوى أو تكسبها لصالح طائفة ضد أخرى.

كأن مقولة أن "التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة كمأساة ومرة كمهزلة" تحدث الآن في السودان

إلى هنا يكون التاريخ قد كتب منطق القوة الذي لا يضل عن مسعاه في تحييد أي حراك يتبنى شعارات وطنية استقلالية ضد مستعمر بأدوات معروفة وبعيدة عن درب التأسيس لمثل تلك القضايا، وهي آفة الشر التي ستلد أبناء الشؤم طوال تاريخ الدولة عقب الاستقلال، وهنا وضع التاريخ حقيقة أن لا بد له من عود وإن تأخر، وهو ما نستدركه بوضع الفاعلين السابقين موضع الفاعلين الآن؛ فبعد ثورة ديسمبر المستمرة، فإن أطراف الصراع الآن تصطف في مواقفها التاريخية وكأن مقولة أن "التاريخ يعيد نفسه مرتين مرة كمأساة ومرة كمهزلة" تحدث الآن في السودان، فبعد مأساة الخريجين نقع في مهزلة ما بعد المهنيين في انتظار أن يكسر حكم العود الأبدي للتاريخ، فبعد احتجاجات مدينة عطبرة يظهر للساحة تجمع المهنيين السودانيين الجسم النقابي الذي تأسس في العام 2016، بتحالف شبكة الصحفيين السودانيين ولجنة الأطباء المركزية والتحالف الديموقراطي للمحامين ليقود عبر دعوته في الخروج لتسليم مذكرة التنحي للقصر الجمهوري وذلك في 25 كانون الأول/ديسمبر 2018، لتعلق عليه آمال عريضة في قيادة الثورة حتى اكتمل الوصول بها إلى اعتصام القيادة العامة وسقوط نظام المؤتمر الوطني.

وبعد خمسة أيام من السقوط يظهر المجلس العسكري بوصفه إرادة تمثل الحرس القديم للنظام بتقاطعات الثروة وحافظ المصالح الإقليمية، ما يلبث أن يوجه مساره في ذات حركة التاريخ ويستدعى حرس السلطة القديم من الإدارات الأهلية ليكتسب شرعية الوجود، فنرى قياداته غربًا وشرقًا وشمالًا لا ليناقشوا مصائر التنمية أو البناء ولكن لحشد الزعامات والمبايعة. 

إذن هي معركة قديمة في التاريخ السياسي بين القوى التقليدية التي استفادت من وضعيتها التاريخية والقوى الحديثة التي لا تلتئم على قرار، ‏وذلك يتمظهر في أن القوى السياسية التي شكلت إعلان الحرية والتغيير لا تسلم من الوقوع في دائرة التاريخ، فبعد أن تعلقت الآمال بتجمع المهنيين نهشت الأحزاب كيانه فانقسم على نفسه ليخرج لاعب مهم ودفة قيادة الشارع، فما مضى في السابق بتكوين مؤتمر الخريجين حتى انقسمت عضويته بين تياري الطائفتين: الأنصار بقيادة عبدالرحمن المهدي الذي أوعز لعضو اللجنة الستينية محمد علي شوقي وكل من كان يرفع شعار السودان للسودانيين بأن ينضم لحزب الأمة، وما دفع آخرين للجوء لطائفة الختمية ممن نادى بالشعار المقابل "وحدة وادي النيل"، ومن تبقى لم يصمد في وجه كلا التيارين، ومن بقي فقد تراجع في غياهب الخيبة عن المشروع الوطني. 

وبذلك أريق دم الحركة الوطنية في مهدها كما أراقت قوى الحرية والتغيير بالتجاذبات الداخلية الشديدة التي أقعدت الثورة، ما هو ممكن في ظل ثورة ديسمبر: أن تؤسس لانتقال ديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: مواكب سبتمبر والعزم على تحقيق شعارات الثورة

‏حتى تجربة لجان المقاومة لا تخرج عن تسلسل التاريخ الذي نمضي فيه، فهي تجربة تستحق أن تتلافى وقائع التاريخ، أن تنظم بحيث تكمل دورتها في رسم خارطة طريق لتفكك سلطات القوى التقليدية، وتكون أول أدوات وضع خارطة طريق لحكم الدولة السودانية مستهدفة بمثلث البؤس والمرض والأمية، والذي يتخطف أرياف البلاد.

على الرغم  من أن القول بانتهاء  ثورة ديسمبر يكذبه الشارع السوداني، إلا أن الطريق يبدو شاقًا لإيجاد حل سياسي بين الفرقاء

وعلى الرغم من أن القول بانتهاء  ثورة ديسمبر بعد ثلاث سنوات من اشتعالها قول يكذبه الشعب السوداني الذي لا يزال ممسكًا عليها بالنواجذ لاستعادة مسارها، إلا أن الطريق يبدو شاقًا لإيجاد حل سياسي بين الفرقاء، فالطريق الذي لا بد أن يقطعه الجميع؛ لا بد أن يستند على دراية بالشرط السياسي والاجتماعي والاقتصادي حتى لا نقع في إعادة التاريخ القريب، وليكن لنا فيه عبرة نستلهم منه المآخذ ونضع الوطن في جادة الطريق.

اقرأ/ي أيضًا

ما الذي يمكن أن نتعلمه من أفغانستان؟

السياسات الاقتصادية للحكومة وأسئلة معاش الناس