تمر الدولة السودانية بأزمة خطيرة تهدد وجودها ككل، لذلك لا بد من التفكير بوضوح في مخرج ينهي حرب الخامس عشر من أبريل ويؤسس للسلام المستدام في البلاد التي تشهد حروبًا منذ استقلالها. في هذا الصدد تبرز أهمية العدالة الانتقالية كأداة حيوية لتأسيس السودان الجديد. إن العدالة الانتقالية هي مفهوم واسع وحديث نسبيًا، ولكنها ليست مجرد مسألة محاسبة للمتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان، بل هي أيضًا عملية شاملة تتضمن تعويض الضحايا وكشفًا كاملاً للحقيقة وبناء مؤسسات وطنية تقوم على مبادئ العدالة والشفافية.
وفي هذا السياق، سنتناول العلاقة بين عملية بناء الدستور والعدالة الانتقالية، حيث يجب أن يكون الدستور الجديد قاعدة قانونية تضمن حماية حقوق الإنسان وتعزز مبادئ المساءلة والشفافية. كذلك سنتطرق إلى التسوية السياسية أو التوافق التأسيسي الممهد للعدالة الانتقالية التي ستفضي حتمًا إلى المصالحة الوطنية.
نتحدث في الحقيقة عن العدالة الانتقالية على الرغم من أن صوت السلاح أعلى من الصوت المدني
بالإضافة إلى ذلك، سنتناول التحديات الحالية مثل الحرب والاستقطاب السياسي الحاد وحالة التحشيد والاصطفافات العرقية، ودور العدالة الانتقالية كمحور أساسي ومهم لبناء السلام والاستقرار. وهنا يتبادر إلى أذهاننا سؤال هام: هل تعني العدالة الانتقالية العفو؟ أم أن هناك أشكالًا أخرى من العدالة؟ أم أنها تعني الانتقام والتشفي؟ وما هي العلاقة بينها وبين المصالحة الوطنية؟ وغيرها من الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها في هذا المقال. كما سنلقي نظرة على تجارب بعض الدول تمهيدًا لبناء نموذج سوداني للعدالة الانتقالية يراعي خصوصية المجتمع السوداني.
لماذا نتحدث عن العدالة الانتقالية في ظل الصراع الحالي؟
على الرغم من بشاعة الانتهاكات التي تقوم بها مليشيا الدعم السريع في حق المدنيين العزل، وانتهاكات القوات المسلحة أيضًا، بالإضافة لحالة التحشيد والاستقطاب الحاد، واختلال الوضع بشكل عام وحالة الفوضى والدمار، نتحدث في الحقيقة عن العدالة الانتقالية على الرغم من أن صوت السلاح أعلى من الصوت المدني. نحاول تشكيل رأي جمعي بأهمية العدالة الانتقالية والدور الذي من الممكن أن تلعبه طريقة التفكير المرتكزة على العدالة في إيقاف الحرب. بمعنى الانتقال من طريقة التفكير السلطوية السائدة منذ الاستقلال إلى طريقة تفكير تأسيسية. أعتقد أنه عند بلوغنا لمرحلة الوعي الاجتماعي والسياسي الذي ينطلق من العدالة، ستتوقف الحرب وسنتفادى حروب أخرى جديدة.
التوافق التأسيسي الممهد للعدالة الانتقالية
دعونا نتحدث عن التوافق التأسيسي كمرحلة مهمة قبل بدء عملية العدالة الانتقالية، أو التسوية السياسية بوصفها المنشأ. أعتقد أن بداية الحل تكمن في التوافق على مبادئ العدالة وسيادة القانون وأصوات الضحايا. يجب أن يكون هذا التوافق مبنيًا على تحقيق العدالة وإصلاح القوات المسلحة وحل جميع المليشيات تمهيدًا للوصول لجيش مهني واحد بعقيدة وطنية متجاوزة للتراتبية العسكرية، تضع كرامة المواطن السوداني أولًا وتدافع عن الوحدة والسيادة الوطنية.
التوافق التأسيسي الممهد للعدالة الانتقالية يمثل جزءًا أصيلًا من العملية الديمقراطية والمصالحة الوطنية في نهاية المطاف، ويتطلب تغييرًا جذريًا في الطريقة التي يدير بها الجيش الشؤون الوطنية والسياسية. يجب أن تكون هذه العملية متمحورة حول إشراك جميع شرائح المجتمع السوداني في صياغة المستقبل وتحقيق مصالحهم المشتركة. وأقصد بالجميع هنا كل القوى السياسية والاجتماعية وأصحاب المصلحة في التأسيس بدون استثناء، بما فيهم الحركة الإسلامية وقوى الحرية والتغيير وفق شروط معينة أهمها التوافق على مبدأ العدالة وسيادة القانون، والاعتراف وتقديم الجناة للعدالة.
لكن قبل أن نبدأ في مناقشة المصالحة، يجب علينا الدفع في اتجاه تشكيل وعي تأسيسي في المجتمع السوداني. وهذا يتطلب تغييرًا في الطريقة التي تفكر بها الطبقة السياسية والقوى الاجتماعية. يجب أيضًا تعزيز الهياكل الاجتماعية والسياسية المستقلة التي يمكنها أن تلعب دورًا مهمًا في تحقيق التوافق التأسيسي الممهد للانتقال الديمقراطي.
في النهاية، المصالحة ستكون نتيجة لعملية عدالة انتقالية شاملة، ولكن ينبغي علينا أولًا التركيز على تحقيق وقف الحرب التي تتوسع دائرتها بشكل متسارع مخلفة وراءها حوالي إثني عشر مليون نازح ولاجئ في دول الجوار، وأربعة ملايين من الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد حسب وكالات أممية.
في هذه الوضعية المعقدة، يمكننا استلهام دروسٍ قيّمة من تجربة نيلسون مانديلا، الذي بعد قضائه 27 عامًا في السجن، استطاع الاستفادة من موازين القوة لصالحه آنذاك. وعلى الرغم من أن ميزان القوة كان يميل نحو الجماهير الأفريقية في تلك اللحظة، اختار مانديلا بحكمته وعقلانيته السعي نحو التسوية السياسية الممهدة للعدالة. ومن خلال تقديمهم لتنازلات تاريخية كبيرة، مثل "بنود الغروب"، استطاع مانديلا شراء المستقبل وتجنب إراقة المزيد من الدماء وتفاقم الصراع. وبالرغم من أن قرار التسوية في ذلك الوقت كان صدمة للكثيرين، فإنه كان خيارًا حكيمًا وشجاعًا من أجل المصالحة والسلام والمضي قدمًا في التأسيس.
الآن في السودان، نواجه نزاعًا يهدد وجود الدولة. ورغم اختلاف التعريفات والفهم للنزاع، فإن هناك فرصة حقيقية لتحقيق التسوية
الآن في السودان، نواجه نزاعًا يهدد وجود الدولة. ورغم اختلاف التعريفات والفهم للنزاع، فإن هناك فرصة حقيقية لتحقيق التسوية. تفاوض عسكري ينهي وجود مليشيا الدعم السريع ويضع حدًا للحرب، وعملية سياسية شاملة قائمة على أصوات الضحايا تكون حجر الزاوية في تأسيس السودان الجديد.
ومع ذلك، فإن الأمر المؤسف هو عدم تشكل الوعي التأسيسي بعد، سواء على مستوى النخب العسكرية أو المدنية. وهذا يجعل مستقبل التسوية غير واضح، ولكن علينا أن نظل متفائلين ونعمل على بناء الوعي التأسيسي، من أجل الوصول.
ما هي العدالة الانتقالية؟
هناك العديد من التعريفات لمفهوم العدالة الانتقالية، من بينها تعريف الأمم المتحدة الذي يعرف العدالة الانتقالية بأنها "كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة". أي أنها مجموعة من الإجراءات القضائية وغير القضائية التي تتخذها الدولة والمجتمع للتعامل مع ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بهدف إحقاق الحق للضحايا أو الناجين.
في الحقيقة، العدالة الانتقالية لا تقتصر على مفهوم "العفو" أو "الإفلات من العقاب" أو "الانتقام"، بل تتألف من أربع ركائز أساسية تعمل معًا في عملية شاملة:
- الحق في الحقيقة: يتم تحقيقه من خلال إنشاء لجان الحقيقة التي تعمل على كشف الحقائق وتوثيق الانتهاكات.
- الحق في العدالة: ويتم تحقيقه من خلال المحاكمات الجنائية التي تقيم المسؤولية الفردية عن الجرائم وتقدم العدالة للضحايا.
- الحق في التعويض: يشمل تقديم التعويضات للضحايا سواءً كانت فردية أو جماعية، وذلك عن طريق لجان خاصة تعنى بجبر الضرر.
- الإصلاح المؤسسي: يهدف إلى تحقيق التغييرات الهيكلية لضمان عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل.
هذه الحزمة من الإجراءات تعمل معًا لتحقيق العدالة الانتقالية، ويتم ذلك عادة عن طريق مفوضيات العدالة الانتقالية أو هيئات مماثلة.
تكامل العدالة الانتقالية مع عمليات الانتقال الأخرى
لحدوث تحول ديمقراطي حقيقي، يتطلب سنواتٍ وسنواتٍ من العمل الجاد، وتراكمًا لعدد من عمليات الانتقال الناجحة، بما في ذلك عمليات "العدالة الانتقالية" و"بناء الدستور"، ومدى التداخل الكبير بينهما، إلى جانب الدورات الانتخابية والتحول الصناعي والتنموي المأمول.
في مرحلتنا الحالية، يجب علينا فهم العلاقة بين التسويات السياسية والعدالة الانتقالية وبناء الدستور بشكل جيد، ومدى التداخل بينهما وشكل التفاعل. لكي يحدث انتقال سياسي تأسيسي في فترة ما بعد النزاع الحالية، يجب أن ندرك أن العلاقة بين العدالة الانتقالية وبناء الدستور هي علاقة تكامل وليست علاقة تنافسية، لتحقيق الهدف العام المتمثل في السلام والتنمية المستدامة.
مسألة التسلسل الزمني فيما يخص عمليتي العدالة الانتقالية وبناء الدستور لا توجد لها إجابة حاسمة أو قالب جاهز، بل خاضعة للنقاش حسب السياق وخصوصية الدولة المعنية. مثلًا، لو سبقت عملية العدالة الانتقالية عملية بناء الدستور، من الممكن الاستفادة من توصيات لجان الحقيقة فيما يتعلق بالإصلاحات المؤسسية بما فيها مؤسسات بناء الدستور، ومعرفة طبيعة الانتهاكات ومكامن الخلل. أما إذا سبقت عملية بناء الدستور عملية العدالة الانتقالية، فيمكن الاستفادة منها في توفير ضمانات للأنظمة
والأفراد لتشجيع مشاركتهم في عملية العدالة الانتقالية.
قد يكون القاسم المشترك بين عملية العدالة الانتقالية وبناء الدستور هو "التسوية السياسية" الممهدة أو التوافق التأسيسي كما ذكرنا سابقًا. ترتبط العدالة الانتقالية وبناء الدستور بعملية تسوية سياسية أوسع نطاقًا، لا بد من فهم أن العمليتين جزء من عملية انتقالية أكبر ستؤثر فيها جميع عناصر الانتقال على بعضها البعض. في حالات ما بعد النزاع، يمكننا أن ننظر إلى طريقة تفاعل العمليتين من منظور "المساومة السياسية" محددة السياق التي ستشكلها أهداف التفاوض بين أطراف النزاع كجزء لا يتجزأ من مجموعة أوسع من "الحلول الوسط" اللازمة لتحقيق الانتقال نحو السلام.
مع ذلك، يجب الإشارة إلى أن المساومة السياسية لا تعني الإفلات من العقاب، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية لا تسقط بالتقادم ولا يجوز فيها العفو حسب المواثيق والمعاهدات الدولية. ليس بالضرورة القضاء على الصراع كليًا أو حله، بل إنهاء الصراع العنيف وإنشاء مؤسسات وتنفيذ عمليات يمكنها إدارة الصراع في المستقبل دون اللجوء إلى الحرب وأقصد بذلك "تحويل الصراع".
عند الحديث عن التسوية السياسية، من الممكن أن يخطر ببالنا المقايضات والالتزامات المسبقة والقيود
عند الحديث عن التسوية السياسية، من الممكن أن يخطر ببالنا المقايضات والالتزامات المسبقة والقيود. على سبيل المثال، في جنوب إفريقيا كان هناك التزام مبكر بإنشاء مؤسسات قادرة على التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، مثل "لجنة الحقيقة والمصالحة". أيضاً قد تكون الالتزامات سبباً في جلب أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات وخلق الثقة المطلوبة. وممكن أن تكون هذه الالتزامات تنازلات بالمعنى الممتلئ للكلمة، تحمي عناصر النظام المنتهية صلاحيته وتحاول تلبية مطالب المرحلة الانتقالية.
هناك دساتير تعزز جوانب التسوية السياسية. في جنوب إفريقيا، قاموا بما يمكن تسميته "دسترة لقرارات العفو" التي حفزت عناصر النظام المنتهية صلاحيته للسماح بالمضي قدمًا في عملية الانتقال. إضافة إلى ذلك، قد تمنع "دسترة العفو" المحاكم من إلغاء العفو لاحقًا مثل ما حدث في الأرجنتين، مما يمنح المزيد من الضمانات للتوصل إلى تسوية سياسية بشأن نقل السلطة.
باختصار، ينبغي دراسة عمليتي العدالة الانتقالية وبناء الدستور بدقة من أجل تحقيق التوازن بين الحاجة إلى إنشاء التسوية السياسية وحمايتها، وحماية الالتزامات المسبقة الحاسمة وضمان المشاركة العامة والشرعية الشعبية الكافية.
دسترة العدالة الانتقالية وقراءة في تجارب بعض الدول
من غير المحتمل أن تنجح العدالة الانتقالية في تحقيق أهدافها دون أن يصاحبها تغيير هيكلي في مؤسسات الدولة على المدى البعيد. قد تقوم عملية بناء الدستور بترسيخ الركائز الأربعة للعدالة الانتقالية، مما يمكننا من القول بأن "دسترة العدالة الانتقالية" ستساعد في تحقيق أهدافها بشكل عملي.
يمكن لها إضافة الطابع الدستوري لاستقلال هيئات تقصي الحقيقة "لجان الحقيقة"، والإقرار بصحة الروايات حول الماضي. في الوقت نفسه، يمكن للجان الحقيقة تقديم توصيات بشأن الإصلاح المؤسسي، وربط السعي في تعزيز الحق في معرفة الحقيقة ببناء الدستور والإصلاح المؤسسي الشامل.
على سبيل المثال، يمكن للدولة الدعوة إلى إنشاء لجان الحقيقة في الدستور، كما حدث في كولومبيا والصومال ونيبال عام 2015، حيث منحت اللجان صلاحيات أوسع من التحقيقات فقط، مثل ممارسة نفس سلطة المحكمة في استدعاء الأشخاص للمثول للتحقيق، ودخول مقر إقامة شخص معين أو مكتبه وإجراء تفتيش ومصادرة أي أدلة تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان، ودخول أي منشآت حكومية أو غيرها.
في السودان، كانت لجنة نبيل أديب في الفترة السابقة نموذجًا سيئًا للجان التحقيق، حيث كانت محدودة الصلاحيات ومشوهة، وفقًا لقانون لجان التحقيق الذي يعود إلى عام 1954. لم تمتلك اللجنة سلطات النيابة في تقديم الشهادات كأدلة في المحكمة، وبالتالي كانت قاصرة في عملها.
فيما يتعلق بالركيزة الثانية للعدالة الانتقالية "الحق في العدالة"، يمكن رؤية جهود وضع الدستور في إطار تعزيز الحق في محاكمة عادلة وفق المعايير الدولية، وضمان الإصلاح اللازم لمؤسسات القضاء، بالإضافة إلى الدور الذي يلعبه بناء الدستور في إعادة تأسيس سيادة القانون بموجب دستور يخضع له الجميع. لطالما كانت المساءلة الفردية عن طريق الملاحقة القضائية عنصرًا هامًا من عناصر العدالة الانتقالية، التي تسعى إلى ترسيخ المساءلة بدلاً من الإفلات من العقاب.
وقد أثارت مثل هذه الجهود عددًا من الأسئلة الدستورية، بما في ذلك مدى مقبولية العقوبة المسلطة على مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي لم يتم تجريمها في السابق أو في الوقت الراهن بموجب القانون المحلي، وشرعية المحاكم الخارجية التي تحدد المسؤولية الجنائية.
في حين أن العفو ممكن أن يغوض في هذا الهدف، بالإضافة إلى تحفيز الأفراد على الاعتراف في جلسات الاستماع المفتوحة دون خوف من الملاحقة القضائية، الكثيرون يرون أن ذلك يعزز ثقافة الإفلات من العقاب "حسب نوع العفو". لذلك يجب أن يكون العفو مشروطًا بالمكاشفة والندم. يمكن للدساتير أن تكفل العدالة الجنائية وتغليبها على العفو، كما في تونس على سبيل المثال، أو أن تفعل العكس من خلال حماية العفو، كما في جنوب أفريقيا كمثال آخر.
من ناحية الآلية الخاصة بجبر الضرر، أعتقد أنها تؤثر على الضحايا بشكل مباشر، سواء كانت تعويضاتٍ فرديةً أو جماعيةً، ماديةً أو رمزيةً، سواء تمثلت هذه التعويضات في برامج طبية أو نفسية، أو في إصلاح مناهج التعليم وإحياء الذكرى بمختلف أشكالها، أو في إعادة توزيع الأراضي والاعتذار العلني وغيرها من وسائل جبر الضرر.
قد تتضمن ديباجة الدستور شكلاً من أشكال التعويض الرمزي، كما هو الحال في دستور جنوب إفريقيا
في هذا السياق، قد تتضمن ديباجة الدستور شكلاً من أشكال التعويض الرمزي، كما هو الحال في دستور جنوب إفريقيا الذي يذكر: "نحن شعب جنوب إفريقيا، ندرك المظالم المرتكبة في ماضينا، ونكرم أولئك الذين عانوا من أجل العدالة والحرية في أرضنا".
في نيبال مثلاً، يشتمل دستورها للفترة ما بعد الصراع عام 2015 على المادة 42 التي تتعلق بالحق في العدالة الاجتماعية، حيث يُعتبر أسر الشهداء الذين ضحوا بحياتهم في الحركات الشعبية بعد الصراع لعام 2015 وضحايا الصراع فئة تستحق اهتمامًا خاصًا دائمًا، بما في ذلك النزاعات المسلحة والثورات من أجل التغيير الديمقراطي التقدمي في نيبال، بالإضافة إلى عائلات الأشخاص المفقودين والذين قاتلوا من أجل الديمقراطية وضحايا الصراع والمشردين، والأشخاص الذين تعرضوا للإصابات الجسدية والجرحى والضحايا. لهم الحق في الأولوية، وفقًا لما ينص عليه القانون، في التعليم والصحة والتوظيف والإسكان والضمان الاجتماعي، مع توفير العدل والاحترام اللائق.
كما يحمي دستور رواندا الضحايا كفئة خاصة، حيث يُعطى الأولوية لرفاهية الناجين المحتاجين من الإبادة الجماعية التي أُصدرت التوجيهات الدولية للأمم المتحدة بشأنها لتعزيز أنشطة العدالة الانتقالية، بحيث توصي بتكريس حماية حقوق أقلية التوتسي.
الركيزة الرابعة تتعلق بالإصلاح المؤسسي لضمان عدم التكرار. تم تعريف ضمانات عدم التكرار في المقام الأول في مبادئ الأمم المتحدة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان من خلال العمل على مكافحة الإفلات من العقاب.
يدور المبدأ 35 حول عدم التكرار، وأنه يجب على الدول إجراء إصلاحات مؤسسية واتخاذ الإجراءات الضرورية لضمان احترام سيادة القانون، وتعزيز ثقافة احترام حقوق الإنسان والحفاظ عليها، واستعادة ثقة المواطن في المؤسسات الحكومية. يمكن أن تكون هذه الركيزة تمثل الحق الأساسي الذي يحمي حقوق الإنسان، والأكثر تداخلاً مع عملية وضع الدستور، بل يمكن أن نعتبر عملية بناء الدستور كوسيلة فعالة لضمان عدم التكرار.
الإصلاح المؤسسي يشمل كل مؤسسات الدولة بلا استثناء (أمنية، عسكرية، اقتصادية، قطاع مدني...إلخ)، بل من الممكن أن يغير شكل هيكل الدولة ككل. في السودان، طوال تاريخنا من الاستقلال وحتى الآن، تشكلت مؤسسات ما بعد استعمارية تسرب فيها الفساد. هناك حاجة ملحة لنركز على أهمية التغيير السلوكي لمواكبة الابتكارات المؤسسية.
على سبيل المثال، تدعو المذكرة التوجيهية للأمم المتحدة بشأن العدالة الانتقالية الحكومات إلى دمج برامج تدريبية شاملة للمسؤولين والموظفين العموميين بشأن معايير حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي المعمول به. هذه التوصية ترافق عملية وضع الدستور، مع التركيز المتزايد على الحاجة إلى ضمان التغيير السلوكي جنبًا إلى جنب مع التغيير الدستوري لتحقيق مساهمتها المحتملة في تحويل الصراع.
من ناحية حقوق الإنسان، من الأفضل أن يتم إدماج القانون الدولي الإنساني والمعاهدات والمواثيق الدولية ومسودات حقوق الإنسان في الدستور. على سبيل المثال، في ديباجة جمهورية الكونغو الديمقراطية، تم ذكر: "نؤكد من جديد التزامنا وتعلقنا باتفاقيات الأمم المتحدة بشأن حقوق الطفل وحقوق المرأة". مثال آخر هو دستور الأرجنتين، الذي ينص في المادة 75 على أن "المعاهدات والمواثيق لها مكانة أعلى من القوانين". باختصار، هناك العديد من الطرق التي تساهم فيها عملية التفاعل بين عمليتي بناء الدستور والعدالة الانتقالية في تعزيز الجهود نحو ضمان عدم تكرار الانتهاكات.
نحو نموذج سوداني للعدالة الانتقالية
في السودان، يجب علينا بناء نموذج سوداني خاص للعدالة الانتقالية يستند إلى سماع أصوات الضحايا ويحترم حقوقهم، ويراعي السياق التاريخي وخصوصية المجتمع السوداني. سيكون للضحايا الحرية في اختيار العفو مقابل الحقيقة والمحاكمات المحلية لما يتمتع به السودان من موروث ثقافي عظيم في حل النزاعات، إلى جانب الحق في الحصول على التحكيم الدولي كذلك سواء كان عن طريق المحكمة الجنائية الدولية أو المختلطة أو غيرها من الخيارات التي ستترك لقانون العدالة الانتقالية. سيشمل النموذج السوداني للعدالة الانتقالية أيضًا إجراءات جبر الضرر للضحايا والتعويض الرمزي والمادي إلى جانب ضمانات عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل المتمثلة في الإصلاح المؤسسي الشامل.
في النموذج السوداني، سيكون الضحايا في مركز القرار ويتم احترام حقوقهم بالكامل، بما يضمن المساءلة وإحقاق الحق وعدم الإفلات من العقاب لأولئك الذين ارتكبوا جرائم في حق الشعب السوداني.
في الفترة السابقة استخدم مصطلح العدالة الانتقالية بشكل كثيف وتعرض لتشويه في بعض الأحيان
في آخر المطاف، قصدت أن يحتوي المقال على تفاصيل عن الركائز الأربع للعدالة الانتقالية وأمثلة من الدول لتقريب الفهم. في الفترة السابقة استخدم مصطلح العدالة الانتقالية بشكل كثيف وتعرض لتشويه في بعض الأحيان، وبالضرورة يجب علينا جميعًا أن نحاول أن نجيب على سؤال: "ما هو النموذج السوداني للعدالة الانتقالية الذي نريد تنفيذه ما بعد النزاع؟".
علينا أن نبدأ الحديث والعمل في هذا السياق باعتبار أن هذه اللحظة الحرجة من تاريخ السودان تحتاج إلى التفكير الجاد والكثير من العمل في محاولة لتفادي ازدياد الأوضاع سوءًا، وتدارك ما يمكن تداركه. يجب علينا عدم الجلوس مكتوفي الأيدي وانتظار أن تنتهي الحرب بطبيعة الحال، التي قد تدمر ما تبقى من السودان وتفككه لدول متناحرة في أسوأ السيناريوهات. بل يمكننا استخدام خطاب العدالة الانتقالية في المساعدة على إنهاء الحرب بأقل الخسائر وأسرع فرصة ممكنة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما ينبغي أن يكون أو أن يتم تحقيقه بعد النزاع.
بمعنى أن نكون جاهزين ونعلم ماذا نريد في حالة انتصار جنود وضباط القوات المسلحة وحل مليشيا الدعم السريع. كذلك علينا طرح العديد من الأسئلة: ماذا في حالة عدم انتصار طرف على آخر؟ هل سنذهب في سيناريو مناطق السيطرة؟ أم أن هناك إمكانية تدارك ما يمكن تداركه عبر الانخراط في عملية توافق تأسيسي تفضي إلى عدالة انتقالية تؤسس للسودان الجديد؟ كيف يمكننا التعامل مع قيادة القوات المسلحة وقيادة المليشيا المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؟ محاولة للتفكير بصوت عالٍ ودعوة للنقاش.