02-نوفمبر-2015

مهاجرون في مخيم كاليه، شمال فرنسا (Getty)

"هنا لندن" العبارة التي يحلمُ بها أكثر من خمسة آلافِ شخصٍ أكثر من خمسمائة منهم سوريون، يقيمون في مخيم السلام، أو jungle، في مدينة كاليه شمال فرنسا. يعيشون يومهم ليومِهم، كل شيء يخضع في الغابة لقانون Line، الصف الذي تتقاضى عبره حصتك من كلّ شيء: الطعام، الألبسة، الأغطية، الخيام، الماء، وحتى الحمام وقضاء الحاجة تحتاج للاصطفاف في Line.

 تُستبدل كلمة "police" بـ"عباس" كي لا يلاحظها حراس الحدود، أو كأن يقال: فلانٌ فجّرَها، أي استطاع العبور بنجاح

طريقان لا ثالث لهما من كاليه الفرنسية إلى دوفر البريطانية؛ الأول هو الميناء، والثاني هو القطار الذي يعبر نفق "المانش" تحت البحر، حيث يثابر المهاجر والمهجّر ويقضي ليالٍ طوال مرابطًا على سياج إحدى المحطتين المحاطة بأكثر من ساتر مغطىً بالأسلاك الشائكة التي يقال لها: "السلك الإسرائيلي". قد يتم القبض عليه وإعادته إلى المخيم بعد بخّهِ بغاز الفلفل، أو بسجنه وتسفيره إلى بلده إن كان البلد آمنًا.

الميناء قريب من المخيم، تجتاز السياج وتختبئ أسفل الشاحنة أو كما تدرج التسمية "دوكار"، فتخضع لكونترولات، قد يتم كشفك عبر الكلب، أو بالماسح الحراري، وقد تعبرُ إن كان "شنصك" قويًا إلى الباخرة ومنها إلى بريطانيا. محطة القطار تحتاج إلى ساعتين مشيًا على الأقدام، ثمّ الطواف حولها ساعات طويلة بحثًا عن منفذ آمن، قد تحصل على فرصة بالدخول والتعلق بالقطار، قد تحتاج إلى أكثر من محاولة، وقد تضطر إلى المبيت في كيس النوم تحت المطر في انتظار فرصة ما. بعض السوريين وصل المخيم وبنفس اليوم ذهب ليرى القطار فعبرَ بفعل الصدفة، وبعضهم صار له أكثر من خمسة أشهر يحاول ويفشل ولكن لا ييأس.

تدرج مصطلحات مستخدمة في المحاولات أغلبها من ابتكار السودانيين الطيبين، كأن تُستبدل كلمة "police" بـ"عباس" كي لا يلاحظها حراس السياج، أو كأن يقال: فلانٌ فجّرَها، أي استطاع العبور بنجاح.

ما الذي يدفع اللاجئ السوري إلى تحمّل أعباء الغربة بحثًا عن منفى معين؟ أنتَ هاربٌ من الموت، وأوروبا كلها ترحب بك، فلماذا بريطانيا تحديدًا؟ هناكَ من يذهبُ لسهولة اللغة الإنجليزية، وآخرَ لتوافر فرص العمل، فأغلب اللاجئين لا يريدون الجلوس في بيوتهم الجديدة أمام التلفاز، ليتقاضوا آخر الشهر مرتبًا من الدولة التي يقيمون بها. "أريد أن أعمل" لسان الغالبية من قاصدي المملكة المتحدة.

ماذا لو دافعت عن بلادي بذات الإصرار وتحملت الأعباء ذاتها؟ هل ستبقى البلاد عصية على الحياة؟

يتوجب عليك تحمّل برد الخيام، غاز الفلفل الحارق، جروح الأسلاك الشائكة، الجوع والعطش، وقد تصل الحال إلى الموت احتراقًا بأسلاكِ الكهرباء كما حدث مع أحد الشبان من مدينة الحسكة في صباح الثامن عشر من أيلول/سبتمبر، عندما تعلّق بالقطار الذي توقف مضطرًا، فصعد فوقه بغية الاختباء غير منتبهٍ لسلك الكهرباء الذي يغذيه بالطاقة فأدى إلى تفحمّ جسده، قطعَ بلدانًا كثيرة وتحمّل أعباء الطريق هربًا من الموت، ليموت في منفى لم ينجح بعبوره إلى ما يريد.

تدفع بريطانيا تكاليف باهظة جدًا لتسييج الميناء ومحطة القطار الكبيرة بأكثر من خمسة أدوار، تلتمس أثناء محاولة عبورها تعاطف الأمن والجندرمة الفرنسيين حيث يبرّر بعضهم منعكَ: هذا عملي وعليّ تأديته. تصل مبالغ التهريب غير الشرعي إلى أربعة آلاف جنيه إسترليني وأكثر، ما يعادل ستة آلاف دولار أمريكي، مبلغ ليس بعادي يضطر بعض الذين يقدرون عليه إلى دفعه بينما يتابعُ غير القادرين محاولاتهم في عبور الميناء أو سكة القطار. 

أن تثابر بإصرار لا مثيل له للوصول إلى منفى اخترته أنتَ، هاربًا من بلادك، دون أن يبادر إلى ذهنك السؤال الأهم: ماذا لو دافعت عن بلادي بذات الإصرار وتحملت الأعباء ذاتها؟ هل ستبقى البلاد عصية على الحياة؟ سؤال يبقى معلقًا على جبين الصمت.

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة السورية.. مسافة بين الجشع والحرية

جاءكم اليمين العنصري حاملًا سيفه