انتقد خبراء وأكاديميون موقف النخبة السودانية المثقفة من قضية الحرب والنزاع المستمر منذ عقود في السودان، مشيرين إلى أنهم لم يطرحوا سؤال "العجز عن تحقيق السلام الدائم والقدرة على الاستمرار في الحرب" طوال تاريخ السودان، ولافتين إلى اشتعال الحروب في كل أنحاء البلاد، عدا مركز السلطة في الخرطوم والأماكن التي تمثل "حاضنة اجتماعية لمركز السلطة".
الباقر العفيف: استمرار الحرب يعود إلى أن الأسباب لم تُحلل تحليلًا صحيحًا، وظللنا نفقد مصادر وأناس وأراضي في كل الأقاليم
وتساءل مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة الدكتور الباقر العفيف خلال ورقته التي قدمها في مؤتمر اتفاق جوبا لسلام السودان واستكمال السلام -الذي تنظمه الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، بدعم من الآلية الثلاثية- تساءل عن السبب الأساسي في اشتعال الحروب في السودان مع التخلف والفقر الذي بلغ نسبة (70%) من السكان -على حد قوله- مع أكثر من ثلاثة ملايين طفل خارج المدارس، قائلًا إن حروب السودان هي "أطول حرب في التاريخ على الإطلاق".
وتابع العفيف: "استمرار الحرب يعود إلى أن الأسباب لم تُحلل تحليلًا صحيحًا، وظللنا نفقد مصادر وأناس وأراضي في كل الأقاليم". وأضاف أن "الآباء المؤسسين المفترضون" وكذلك النخب المعاصرة، فهموا أن سبب الحرب في جنوب السودان هو الاستعمار، لأنه حاول أن يفصل الجنوب ويدفعه إلى التطور تطورًا مختلفًا عن الشمال، وكذلك النظام التعليمي الذي انتهجه لتأسيس هوية مغايرة لهوية الشمال - بحسب العفيف. وتابع العفيف أن النخب رأت أن الاختلاف هو السبب الأساسي للحرب، وأن الاستعمار "أوغر صدور الجنوبيين ضد الشمال" - على حد قوله. وأضاف العفيف خلال الورقة التي رصدها "الترا سودان" أضاف قائلًا: "هذه النظرية سقطت تمامًا بعد عقود طويلة من ذهاب المستعمر، والطبيعي أن نكون بذرنا بذور المحبة وعالجنا المشكلة، لو أن هذا التفسير صحيح". "لكن الذي حدث هو أن الحرب ازدادت عمقًا وانتقلت من إقليم إلى إقليم" - أضاف الباقر.
وأشار الباقر العفيف إلى ظهور نظرية "التنمية غير المتوازنة" بعد مدة من الزمن، موضحًا أنها ترى أنه لو تحققت تنمية في الأقاليم المختلفة؛ تكون مشكلة الحرب قد انتهت. وأضاف: "حدث ذلك في اتفاقية أديس أبابا التي جاءت لتحقق التنمية، ولكن المشكلة أنها انهارت وعادت الحرب أقوى" - بحسب الباقر.
وتابع العفيف مستعرضًا نظريات تفسير استمرار الحرب في السودان بقوله: "ثم جاءت نظريات صراع الهويات التي طرحت من قبل الكتاب الجنوبيين، وأشهرهم فرانسيس دينق، الذي يرى أن الشمال حاول سلب الجنوب هويته، عبر أسلمته وتعريبه". ويرى العفيف أنه وبناءً على ذلك؛ جاءت نظرية "صراع الموارد والهوية" التي ترى أن الحرب تشتعل بسبب الموارد، ثم يدخل البعد الإثني، فتصبح "حربًا على الهويات". وبناءً على هذه النظريات، جاءت نظرية "المركز والهامش" ضمن أدبيات الحركة الشعبية لتحرير السودان، مبينًا أنها تنظر إلى الصراع باعتباره "صراعًا دائريًا بين المركز والأطراف المهمشة"، وعليه ترى ضرورة تغيير المركز ليصبح مركزًا للسودان الجديد، قائمًا على العدالة الاجتماعية - وفقًا للباقر.
ويرى العفيف أن السودان لم يوضع على المسار الصحيح بعد الاستقلال ولم يتطور "ضمن حاضنته الثقافية والاجتماعية الطبيعية"، مشيرًا إلى أن أول قرار للحكومة بعد الاستقلال هو تعريف السودان كدولة عربية والانضمام إلى جامعة الدول العربية، الأمر الذي جعل السودان -بحسب الباقر- "يدير ظهره لأفريقيا" التي قال إنه "لم يعرف عنها الكثير بخلاف العالم العربي". وتابع: "تبنت النُخب العروبة والإسلام دون تنقيتهما أو سودنتهما، وتعاملت الدولة مع الآخرين كأقليات، والثقافة العربية لا تقبل منهم شيئًا غير التنازل عن هوياتهم، مثل ما حدث مع الأمازيغ وغيرهم من الأقليات في العالم العربي". وزاد العفيف: "سحق في السودان أي صوتٍ مخالف، وفشلنا في إدارة التنوع، واعتبرت النخب التنوع مهددًا لها، ولذلك جاءت الأسلمة والتعريب".
"أصبح السودان أسوأ بلدٍ في المحيط، من حيث الوضع الاقتصادي والاستقرار السياسي" - يقول الباقر العفيف، مضيفًا أن هناك "فهمًا مغلوطًا لهوية السودان" من أن تكون هوية متعددة الأبعاد وأنه ينبغي أن تبنى المؤسسات كلها على التعددية؛ "ما يسهل من إدارة التعدد ويجعلنا نقبل أنفسنا على ما نحن عليه، وألا نحاول تغيير خلقة الناس" - على حد قول العفيف.
وأشار العفيف إلى "مجهودات كبيرة" قال إن الدولة بذلتها لتغيير هوية الآخرين، معتبرًا أنها تتبنى مشروعًا ثقافيًا وليس سياسيًا، وأن هذا المشروع الثقافي تبناه الأيديولوجيون، وأن إدارة التنوع تحتاج إلى معالجة "جذور الحرب" التي قال إنها "تكمن في الثقافة وليس السياسة" - على حد قوله.
ويقول الباقر العفيف إن ما أعجز السياسيين عن تقديم مشروع سلام مستدام، هو العقلية التي تنظر إلى نفسها على أنها "عربية وإسلامية" دون توطينها في الأرض السودانية، واصفًا هذه العقلية بأنها "أيديولوجية مهيمنة لا تقبل من الآخرين إلا التنازل عن هوياتهم".
ويتفق أستاذ الأنثروبولوجيا الاجتماعية البروفيسور منزول عسل مع الباقر العفيف في أسباب استمرار الصراع في السودان. ويضيف مؤكدًا في حديثه خلال مؤتمر اتفاق جوبا للسلام واستكمال السلام أن أحد أسباب استمرار الحرب، هو غياب "المشروع الوطني" ومحاولة فرض "رؤى أحادية" قاد إلى مقاومتها ماديًا وبأشكال مختلفة، منها الحرب المستمرة لنحو ستة عقود - وفقًا لمنزول عسل. وأشار عسل إلى عوامل إقليمية ودولية منها وضع السودان "المبهم" داخل الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية - على حد وصفه. وزاد أن هذا الوضع أثر في علاقة السودان مع جيرانه خاصةً مصر، لافتًا إلى ظهور ذلك في فترة الحرب الباردة وفترة نظام "الإنقاذ" فضلًا عن آثار النزاعات في دول الجوار من تشاد وليبيا وتدفق الأسلحة منهما إلى دارفور.
وبالإضافة إلى الأبعاد الخارجية للنزاع، يضيف منزول أن النزاع أيضًا يدور حول "الهوية والموارد" وبسبب ما أسماها "الأنماط الرعوية والزراعية التقليدية" ومطالبة أبناء الأقاليم بإشراكهم في السلطة وتقاسم الثروة. وأضاف أن تطبيق النظام الفيدرالي "المشوّه" عمق الأزمة بدلًا عن حلها - على حد قوله.
يرى منزول عسل أن التنمية هي "مفتاح السلام" وأن تقليل النزاع يحتاج إلى "مشروع وطني"
ويرى عسل أن التنمية هي "مفتاح السلام"، مبينًا أن تقليل النزاع يحتاج إلى "مشروع وطني" وكذلك إلى مشاريع على المستوى المحلي للحد من النزاعات، مؤكدًا أن النزاعات ستستمر "ما لم يتغير نمط الإنتاج" - على حد قوله.