للمرة الأولى منذ عشرات السنين أو ربما منذ قرن استنادًا إلى بعض الروايات التي تقول إن الاحتفال بالمولد النبوي في الخرطوم لم ينقطع منذ أكثر من مائة عام – تغيب الاحتفالات بالمولد النبوي هذا العام بسبب القتال بين الجيش والدعم السريع.
الموت والدمار حلا بديلًا لـ"زفة المولد" في ساحات الخرطوم التي يخيم عليها الظلام جراء الحرب بين الجيش والدعم السريع
درجت الطرق الصوفية والجماعات الدينية في العاصمة الخرطوم والمدن الأخرى في أنحاء السودان على تنظيم الاحتفالات مبكرًا، وتسمى "زفة المولد"، تبدأ بالتحرك من منزل شيخ الطريقة أو رجل دين أو من مزارٍ ديني إلى "ساحة المولد" التي تنتشر في ثلاثة مواقع رئيسة بالعاصمة وهي أم درمان وبحري والخرطوم. واليوم وبعد خمسة أشهر من القتال بين الجيش والدعم السريع، تخلو هذه الساحات من الاحتفالات بالمولد النبوي، وتحل محلها المدافع والمتفجرات وحطام المعارك الحربية.
ستغيب "أكشاك" الحلويات المعروفة في السودان شعبيًا بـ"حلاوة مُولد"، ولن تُنصب الخيَم القماشية في الساحات، ولياليها لن تبعث سوى الظلام الدامس مع أصوات القذائف ونيرانها المخيفة.
في ساحة ميدان الخليفة في أم درمان غرب العاصمة الخرطوم درج السودانيون على التوافد إلى هناك للاحتفال بمولد النبي محمد – صلى الله عليه وسلم. ومنذ أكثر من قرن ظل هذا الميدان قبلة للسودانيين من مختلف الاتجاهات والمناطق، حيث تُقام الأسواق وتباع الحلويات ويُضرب على الطبول ويلتف "الحواريون" حول شيخهم يرددون أناشيد تمجد النبي في ذكرى مولده.
ويواجه الاحتفال بالمولد النبوي في السودان مناهضةً شرسة من التيارات الدينية المتشددة، لكنه ظل –مع ذلك– صامدًا محتفظًا بـ"إرثه السوداني" نتيجة صمود الطرق الصوفية في السودان. وأضفي على ذلك الإرث التليد العديد من أنماط الاحتفال مثل صناعة الحلوى الخاصة بالمولد النبوي بأشكال متعددة وقوالب لا تجدها إلا في ساحة المولد، ووسط تلك الحلقات الدائرية تشاهد توزيع الطعام على الأطفال والنساء.
يمكن القول إن احتفالات السودانيين بالمولد تخطت حاجز المناسبة الدينية التي ينصرف عنها الناس بانتهاء أداء شعيرة بعينها. ودرجت الحكومات السودانية على إحياء ذكرى المولد النبوي بتحديد عطلة رسمية في جميع أنحاء البلاد، وليس معروفًا بعد ما إن كانت سلطة الأمر الواقع ستجدد العطلة السنوية بمناسبة المولد النبوي هذا العام أم لا.
في الخرطوم غابت الأضواء عن ميدان المولد في حي السجانة وسط هذه المدينة التي يتقاسم الظلام لياليها مع أصوات الحرب وعصابات النهب والكلاب التي تجوب الطرقات مرورًا إلى المباني السكنية الخالية من سكانها، وكأنها تقول: "لا احتفال هنا هذا العام، فالوقت لحفلات الحرب".
إلى حدود ساعة متأخرة من الليل، تكتسي ساحة المولد حُلتها الزاهية في الخرطوم، وهي تقع على مفترق طرق تساعد المواطنين على الوصول إليها بسهولة. في هذه الساحة كانت الخيام تنصب لاستقبال الزوار وتقرع الطبول وتقام أسواق خاصة بـ"حلويات المولد"، على هامشها تقدم جميع الأشكال. بعض الناس يأتي لشرائها ثم يغادر، فالاحتفال بالنسبة إليه يعني تذوق طعم الحلوى المكون من السكر والفول السوداني أو السمسم والنشويات.
أما في الخرطوم بحري شمالي الخرطوم، هذه المدينة الواقعة على ضفاف النيل الأزرق، المدينة التي ذاقت ويلات الحرب منذ "الطلقة الأولى" تقريبًا، وأُفرغت من أغلب سكانها، تمر اليوم بحالة استثنائية تجعل من العيش في المدينة في الوقت الحالي مستحيلًا خاصةً في بعض الأحياء القريبة من ساحة المولد النبوي.
من النوافذ المشرعة التي تطل على ساحة المولد النبوي كان السكان يشاهدون وصول "زفة المولد" والاحتفالات التي تستمر أكثر من (10) أيام حتى خواتيم الاحتفالات في ذكرى مولد النبي محمد. اليوم لم تعد تلك النوافذ في مكانها، ربما قد تكون مشرعة بالكامل مع بعض المباني المدمرة جراء الحرب المستعرة حتى الآن.