03-فبراير-2020

رواية الكاتب الياباني "هاروكي موراكامي" "كافكا على الشاطئ" (جيرون)

يكتب موراكامي كما يستلقي بحر لا نهائي الزرقة ولى وجهه سماء صيف شاسع. بلا حدود أو فواصل. عنده فقط كل شيء يمكن أن يحدث ببساطة وكل شيء يمكن ألا يحدث ببساطة أكثر.

لا يخلو عمل له من الأحلام أو النعاس اللذيذ الذي لا يُقاوم بالإمكانية التي يشرعها على اللا محدود دون أي ضمانات واقعية.

تميّز عوالمه تلك الوحدة المخصوصة الخاصة بالأفراد والمشتهاة كرغبة سجين في تجاذب أطراف حديث عادي عن الطقس. حيث ينقل اليك روحها ببطء، وفقط بنقل ما هو يومي ومعتاد. للدرجة التي تجعلك تفكر أن صميم القَصَص ما هو إلا في حدثها اليومي وأن البطولة المُدَّعاة ليست فعلًا طارئًا في سلسلة الأفعال المكرورة وأن قوة القص لا توجد في الحبكة بقدر ما هي في التقاطات العادي كمدهش يتكامل مع الحوارات الداخلية.

إن موراكامي يُدلّل الخيال دون إفساده. يعطيه حقه كاملًا دون نقيصة أنه خيال.

الأهم من ذلك أن موراكامي يُدلّل الخيال دون إفساده. يعطيه حقه كاملًا دون نقيصة أنه خيال -وأنه هناك في مكان ما ثمة دائمًا واقع متربص بنا بعد حين- معه دائمًا الخيال ليس إلا من صميم الحياة ومعتركها وهو المادة الخام للحيوات.

اقرأ/ي أيضًا: ستموت في العشرين "غريبًا"

فبطل رواية موراكامي "كافكا على الشاطئ" المراهق صاحب الـ(15) ربيعًا لم يجد الحياة إلا في غرفة مكتبية سكنتها أرواح عاشقين تفرقا مرة وإلى الأبد.

ثم من هناك ومن ظلام الغرفة نفسها وأخيلتها أعاد اكتشاف المعنى لحياته وعلائق ارتباطه مع الشخوص من حوله.

متزامنًا مع مجريات الرواية الصاعدة نحو الفلسفي يمجّد موراكامي الخيال مستعينًا بحدث تاريخي فارق في ذاكرة البشرية، عندما ينقل محاكمة أدولف أيخمان بعيون وصوت المراهق الذي يقرأ كتابًا عن المحاكمة:

"من الواضح أنه لم يفكر إطلاقًا بأخلاقية ما كان يفعله، فكل ما كان يهمه هو التوصل إلى كيفية التخلص من اليهود بأفضل طريقة وفي أقصر مدة زمنية وبأقل كلفة ممكنة. ونحن نتحدث هنا عن (11) مليون يهوديًا في أوروبا رأى هو أن الضرورة تستدعي إزالتهم.

قام أيخمان بدراسة عدد اليهود الذين يمكن تحميلهم على كل عربة سكة حديد، وما هي نسبة من سيموت منهم بشكل "طبيعي" أثناء عملية الترحيل، وما الحد الأدنى المطلوب توافره من الأفراد لتنفيذ هذه العملية، وما هي أرخص طريقة للتخلص من الجثث، حرقها أم دفنها أم تذويبها. يجلس أيخمان إلى مكتبه وينكّب على دراسة الأرقام، وما أن اُعطِي الأمر بالتنفيذ حتى سار كل شيء مثلما خطط له تقريبًا. وبنهاية الحرب كان قد تم التخلص من نحو ستة ملايين يهودي. الغريب أن الرجل لم يشعر بأي ندمٍ فقد بدا وهو جالس في قاعة المحكمة بتل أبيب خلف ساتر زجاجي مضاد للرصاص وكأنه لا يستطيع مهما حاول أن يفهم لماذا يُحاكم أو لماذا تتجه أنظار العالم كلها إليه. فهو مجرد تقني أوكلت إليه مهمة التوصل إلى أكثر الحلول فاعلية لمشكلة ما. ألم يفعل ما كان سيفعله أي موظف بيروقراطي آخر مكانه؟ فلم إذن اختاروه هو بالذات؟.

ويروي بطلنا مواصلًا: "اقرأ قصة هذا الرجل العملي وأنا جالس في الغابات الهادئة وذلك الحشد من الطيور يغرد من حولي.. في نهاية الكتاب خطّ أو شيما ملحوظة بقلم رصاص: المسألة كلها مسألة خيال. مسؤولياتنا تبدأ بالقدرة على التخيّل، كما قال ياتس: "في الأحلام تبدأ المسئولية".

اقرأ/ي أيضًا: غناء "الراب" في السودان.. ألحان على إيقاع الثورة

ومن هذا المبدأ يؤكد موراكامي أن لا غرابة في أن تجد أن اسمى العواطف هي ما لا يلزم احتمال وجودك مكان الشخص المُتعاطف معه. إنها القدرة الأعلى في ارادتك تجنيب إنسان الألم الذي لا يمكنك استشعاره، لكن يمكنك لمسه بالتخيّيل.

في حين أن أيخمان كان مهيأً مسبقًا بخطاب النازية وتفوق العرق الآري والمجد الذي ينتصب في أحلام هتلر وشاربَيّه مضافًا إليه الصفة الشيطانية التي صُوِّر بها اليهود والتي بها نُزعت صفة الإنسان من اليهودي ومن اليهودي الطفل والعجوز والمرأة.

من هنا يمكن أن نعرف لماذا رهن موراكامي في هذا العمل الروائي اكتشاف بطله المراهق للمعنى على الإرادة الفردية الأسمى، أي على فرس الخيال وأحلامه المنتصبة أبدًا في الداخل.

التخيل هو نفسه دليل الإدانة الذي يقطع به موراكامي الطريق على خلُو المسئولية فعنده إيخمان مذنب، لأنه ببساطة عاجز عن التخيل

كان التخيل هو نفسه دليل الإدانة الذي يقطع به موراكامي الطريق على خلو المسئولية، فعنده أيخمان مذنب لأنه ببساطة كان عاجزا عن التخيّل. مستدركًا بأنه لا يمكن أن تنشأ مسئولية بدون القدرة على التخيّل، ليمكننا بعدها التفكير بإشارات الثاني عن اللّه في نفس الرواية وأنه يختلف- مفهوم المعبُود من شخص لآخر- بنفس المقدار الذي تتباين في كل داخل عن الآخر.

الداخل، تلك المنطقة التي لا يمكن لشيء التأثير عليها إلا إذا سمحت أنت له بذلك، لأنك الوحيد الذي يحرس "المدخل" إليها، كما رمز لها في الرواية، قبل أن يدلل على أهميته بإجابة "كرو" عندما سأله كافكا: هل فعل الصواب؟ ليجيبه: "نعم، ومن الأفضل أن تنام قليلًا وحين تصحو، ستغدو جزءً من عالم جديد!"

إنها مسئولية حفاظك على ملك التخيّل وعدم السماح لأي خارج نزعه منك.

تلك الأهمية المطلقة يصبغها موراكامي على الخيال بوضعه في موضع لا يقل عن ما سيكونه اللّه في قلب أي صوفيّ، عندما يقول مقتبسًا من ياتس بأن مسؤولياتنا تبدأ مع قدرتنا على التخيُّل!.

اقرأ/ي أيضًا

ماركيز في ضيافة كاواباتا

تجارب معاصرة.. "ميمز" على جدران المعارض!