08-أغسطس-2022
فتاة تغطي وجهها

الاضطرابات النفسية.. خطر ينمو في السودان

"الجن بتداوى، كعب الاندراوة".. لسبر غور هذا المثل السوداني يمكننا تفكيك معاني مفرداته؛ المقصود بـ(الجن) هو المس الشيطاني، وبالبحث عن معنى (الاندراوة) نجدها تحمل عدة معاني، مثل البلاهة الموروثة لا المكتسبة، وفي تفسيرات أخرى معناها حالة نفسية لا يُعرف سببها.

(%13) من طلاب المرحلة الثانوية في ولاية الخرطوم يعانون الاكتئاب أو القلق (Anxiety)

وإن أخذنا المعنى الثاني لكلمة (اندراوة) سنصل إلى حقيقة رفض المجتمع السوداني لفكرة الأمراض النفسية بصورة واضحة في استخدامهم لهذا المثل في السخرية.

عندما يتعلق الأمر بالصحة النفسية والعقلية يشيح المجتمع السوداني بأنظاره، سواء كان ذلك دلالةً على عدم الإيمان بهذا المفهوم أو إشارة إلى عدم تقبله، فالشاهد أن عبارات مثل "دا مجنون" أو "منفسن ساي"، تتعالى في اللحظة التي يمر فيها أحد المرضى النفسيين، المرضى الذين يواجهون اضطرابات تؤثر في مزاجهم وسلوكياتهم وتفكيرهم، المرضى الذين يعانون الاكتئاب أو اضطرابات القلق أو الفصام أو الاضطرابات التي تسبب الإدمان.

https://t.me/ultrasudan

خطر متفاقم:

قبل شهر، أجرى باحثون سودانيون دراسة عن الصحة العقلية، نُشرت على موقع (Science direct). تقول الدراسة إن (13%) من طلاب المرحلة الثانوية في ولاية الخرطوم يعانون الاكتئاب أو القلق (Anxiety). كما تشير الدراسة إلى أن نسبة النساء اللائي يصارعن اضطرابات ما قبل الولادة في مستشفيات الخرطوم تفوق (23%). وبذكر العاصمة، تحمل الخرطوم في بطنها أكثر من نصف المرضى النفسيين، موزعين بنسبة (24.3%) للاكتئاب و(23.6%) للقلق، فيما سجلت "الفوبيا الاجتماعية" نسبة تقدر بـ(14.2%).

بمتابعة البحث من كثب نجد أن اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) حصد نسبة (14.2%). ويمثل هذا الاضطراب مدخلًا إلى اضطرابات أخرى تمثل في مجملها الأسباب وراء ازدياد الأمراض النفسية في السودان مؤخرًا.

بصورة عامة، فإن اضطراب ما بعد الصدمة يُعد عرضًا نفسيًا يصيب الذين عايشوا أحداثًا مخيفة أو خطرة أو صادمة، أدت إلى الإخلال باتزان مشاعرهم، على سبيل المثال لا الحصر: الحروب والثورات وحوادث القتل أو غيرها. بمعنى آخر؛ أحداث السودان في السنوات الثلاث المنصرمة حتى اللحظة.

يعد اضطراب ما بعد الصدمة ضلعًا مهمًا في تزايد فرص حدوث الأمراض الأخرى؛ إذ يقول الأطباء المختصون حيال هذا الأمر إن استمرار الاضطرابات لأسبوعين لا يعد مشكلة، لكن إن استمر الأمر لأكثر من شهر فإنه يمهد الطريق لبقية العلل التي ذكرناها مسبقًا.

وجهان لعملة واحدة:

الثورة من الأحداث النادرة؛ فهي تجربة فريدة لا تحدث كل عام أو حتى كل عقدين. وفي السودان لم يكن الأمر مغايرًا؛ بل أكثر حدة حيث جلس النظام السابق على سدة الحكم لثلاثة عقود كاملة، ثم فجأة، تغير الأمر بسبب ثورة ديسمبر التي نملك بسببها رصيدًا لا بأس به من التجارب والحياة بصورة عامة.

لكن يبدو أننا لم نكن على أتم الاستعداد لهذا التغيير الذي كان المجتمع كله ضحية له وليس فقط المشاركون في الحراك الثوري، بل حتى الذين كان موقفهم رماديًا حيال الثورة.

هذا القرار الاختياري (الثورة) صدمنا بتغيير آخر قسري متمثل في انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر ومن قبله الأحداث الدموية التي شهدها فض اعتصام القيادة لتخلف هذه الأحداث سلسلة من الأمراض النفسية.

كما أن الحجر الصحي بسبب فايروس كورونا نال منا أيضًا، ربما العالم كله عانى هذا الحجر؛ لكنني أعتقد أن نسيج المجتمع السوداني هو أبعد ما يكون عن فكرة عدم الاختلاط؛ فنحن شعب جُبل على المشاركة إلى درجة اغتيال الخصوصية ولهذا أرى أن فيروس كورونا كان أسوأ عدو لنا.

لا يعد السودان الدولة الوحيدة التي تتآكل بفعل الهشاشة النفسية لهذين العاملين (كورونا والانقلاب العسكري) فميانمار (بورما سابقًا) تشاركنا نفس المشاكل. إذ أكد تقرير موقع (Tea Circle Oxford) أن ميانمار تحت حصار هاتين المعضلتين، ووصف التقرير هذه الحالة بالأزمة الثنائية.

إذًا؛ في ضوء هذه الكماشة التي تلتهم الصحة العقلية للسودانيين، كيف يمكن التغلب عليها؟

في رأيي الشخصي يمكن القول جيل بيبي بومر (Baby boomer generation) أي مواليد (1946-1964) ويمكن القول إن شريحة جيل (X) وهم أولئك المولودين في الفترة من عام 1960 حتى بدايات عام 1980 لم يفتحوا أعينهم على مسميات مثل الاكتئاب والقلق والصحة النفسية، على عكس الأجيال الأصغر سنًا؛ لذلك وعلى الرغم من أنها مهمة صعبة لكن يجب محاولة إدخالهم في هذا الإطار، بالطبع هذا الأمر نسبي وهنالك فئة منهم على وعي بهذه الأمراض.

 نقطة أخرى يجب الالتفات إليها وهي وصمة العار المرتبطة بهذه الأمراض والطابع العقائدي في أسس التشخيص والعلاج، إذ يسقط كل مريض في مصيدة الاتهام بالبعد عن العقيدة والدين. أما من ناحية العلاج الموضوعي فيجب التفريق بين المعنى الأول (الجن) والمعنى الثاني (الاندراوة) ولكل مقام مقال.

وتجب الإشادة بالدور الفعال الذي تقوم به مبادرات مثل (Yellow For Sudan) ومبادرة دعم ضحايا الثورة، أولئك الذين يسعون إلى إيجاد "وردة لكل هذا الخراب".