03-أغسطس-2022
حفل جماهيري بنادي الضباط

حفل جماهيري بنادي الضباط

عندما داهم وباء "كورونا" (كوڤيد-19) جميع أنحاء العالم لم يكن السودان قد استعاد توازنه بعد أحداث ثورة ديسمبر، ما دفعه إلى الدخول في النفق المظلم من الباب الكبير؛ ضربتان على الرأس توجع. وبالتأكيد كان له أثر في المناخ العام في الشارع السوداني.

حضور حفل موسيقي لـ(20) دقيقة فقط يمكنه زيادة العمر الافتراضي بنسبة (21%)

لا حاجة إلى القول بأن هذه الأزمة تسببت في إيقاف جميع الأنشطة الجماعية والتجمعات، لكن بعد انحسار الوباء العالمي وفي بدايات العام الماضي، بدأ يعود إلى الحياة نبضها المألوف في الشوارع خاصةً في المدن، لكن هنالك نشاط عاد بقوة أكبر من غيره: الحفلات الغنائية.

تقول جاين أوستن: "من دون الموسيقى يبدو لي العالم فارغًا". ويوافقها جون لوغان في المضمون بكلمات أخرى: "الموسيقى هي دواء العقل". على الأرجح سنجد آلاف الاقتباسات في هذا الصدد وجميعها تلتقي عند أهمية الموسيقى للنفس البشرية. وسواء تم هذا الأمر بوعي أو من دونه؛ فإن الشارع السوداني أصبح يتعالج بالموسيقى مؤخرًا. وأصبح نادي الضباط أكثر من مجرد مسرح و"ليالي البروف" ليست مجرد أمسيات يتغنى فيها المطربون؛ بل تحول الأمر إلى جلسات من التنفس والانعزال ولو قليلًا عن الواقع المرير.

https://t.me/ultrasudan

في ضوء هذه الحفلات التي تثقب موسيقاها مساءات الخرطوم يتجلى سؤال آخر يستحق إلقاء نظرة عليه، وهو لماذا؟ لماذا يتكبد الناس عناء الذهاب إلى حفل جماهيري فيما يمكنهم الاستماع إلى الموسيقى نفسها على "يوتيوب" أو "ساوند كلاود"؟

العزلة والوحدة

ببصيرةٍ تسقط مفهوم الزمن حذرنا الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي من أزمة العصر الحالي؛ ففي آخر أعماله الروائية على الإطلاق كتب: "العزلة التي يعيش فيها البشر وتتجلى في جميع الميادين ولا سيما في عصرنا هذا. إن عصر العزلة هذا لم ينته حتى أنه لم يصل إلى ذروته. إن كل إنسان في هذا العصر يجاهد في سبيل أن يتذوق الحياة كاملة مبتعدًا عن أقرانه".

هذا التوقع العالي لمآل الإنسانية لم يكن رسالة تحذير فقط ولكنها حشدت قوة ثورية معارضة لهذه العزلة. ويجب التفريق بين مفهومي العزلة والوحدة؛ إذ يعد الأول فعلًا اختياريًا للمرء الذي يهجر الناس والحياة، بينما الأخير حالة ذهنية تدفعنا إلى الانفصال عمن حولنا، سواء من وجهة نظر شخصية أو عالمية. أولئك الذين يشعرون بالوحدة يشعرون بفراغ هائل واستنزاف للطاقة العامة.

إذًا، من خلال هذين المفهومين وعبر الظروف التي مرت بها البلاد من حجر صحي ومحاولات لمعاقرة الواقع السياسي المرير، نجد أن الحالة التي وصل إليها الشعب وبالأخص شريحة الشباب، نجد أنها خليط بين الوحدة (الواقع المظلم) والعزلة (وباء كوڤيد)، ولكن -مجددًا- ما دور الحفلات الجماهيرية هنا؟

دراسات وأبحاث

في عام 2018 تمكنت وكالة الأبحاث بالتشارك مع (Culture Co-op) من إجراء دراسة معرفية سلوكية على (20,000) شخصٍ من (11) دولةً مختلفة، تتراوح أعمارهم بين (13) و(65) سنة، وكانت المحصلة أن الحفلات الموسيقية ليست مهمة فحسب، بل ضرورية لتمكين الاتصال البشري. تأثير الحفلات لا يقتصر على الجانب النفسي فحسب؛ إذ يؤكد باتريك فاجان محاضر علم السلوك في جامعة غولد سميث أن حضور حفل موسيقي لـ(20) دقيقة فقط، يمكنه زيادة العمر الافتراضي بنسبة (21%). ومن جانب آخر، تعزز دراسة كلية لندن في جريدة الصحة العامة أن الانخراط في نشاطات موسيقية تخفف التوتر والقلق كما تؤدي إلى انخفاض هائل في مستويات الكورتيزول الذي يؤدي إلى التقليل من إمكانية حدوث أمراض القلب والسكر والأمراض النفسية مثل الاكتئاب.

الدوافع

توصلنا هذه البحوث إلى الأسباب التي جعلت الحفلات الجماهيرية تصل إلى ذروتها مؤخرًا، فليس هناك ما هو أفضل من المشاركة وقضاء الوقت مع الآخرين حتى وإن كانوا غرباء تمامًا. ويشبه هذا الفعل -المشاركة- اعترافًا ضمنيًا لأنفسنا بأننا لسنا وحدنا، وبذا تقتل إحساس الوحدة الدفين. نقطة أخرى يجب ذكرها وهي رغبة الجمهور في تجربة الموسيقى من داخل فضاء الفنان نفسه، وبجملة أبسط: الاستماع من مقربة إلى فنانهم المحبوب.

وردي ومحمد الأمين

لكن من جانب آخر، توجد عواقب لتأصّل إحساس المشاركة؛ فمن منا لا يذكر رد فعل الموسيقار محمد الأمين عندما اخترق الجمهور مساحته الفنية فأخبرهم بلهجة محلية: "يا تغنوا انتو، يا أغني" فما كان لمحبيه إلا أن يتركوه (يغني هو).

كما يجب عليّ ذكر الموقف الذي حدث لفنان أفريقيا الأول الراحل محمد وردي الذي اضطر قبل عودته إلى البلاد من المنفى إلى الخضوع لجلسات (غسيل كلى) في نيويورك، وعندما رجع إلى البلاد تفاجأ بأن الكثير من الناس يرغبون في التبرع له بـ(كلية).

الشعور بالانتماء

يعد الوصول إلى إحساس الانتماء سببًا أساسيًا في حضور الحفلات بالطبع، فلكل فنان قاعدة جماهيرية عريضة، وتتفاخر كل فئة بمعشوقها، ولهذا يعد الانتماء أمرًا مفصليًا في تحقيق الذات والشعور بالتفوق الشخصي.

ربما الهتافات الثورية تعد حفلًا من نوعٍ خاصٍ أيضًا، تحقق به الجماهير وجودها. وبازدياد الشعور بالانتماء يتعاظم الحس الأخلاقي ويزيد الشعور بالالتزام بما فيه من تأثير إيجابي على الصالح العام.

في النهاية، لا أستطيع منع نفسي من نقل كلمات أديب كمال الدين: "شكرًا أيتها الموسيقى، شكرًا لأنكِ تغسلين دمي من هذيانه وروحي من شظاياها، شكرًا لأنكِ تثبتين لي أبدًا أنّ البحر أكثر سوادًا مما ينبغي وأنَ أصدقائي الغرباء أكثر سذاجةً وعنادًا مما ينبغي، وأنّ بانتظار حروفي نقاط لا تنتهي عند حد. شكرًا أيتها الجميلة كطفلة والعذبة كقُبلة والضائعة كمستقبلي الذي يشبه سيركًا من الأعياد: أولها عيد السم، وآخرها عيد الموت جوعًا. شكرًا".