01-ديسمبر-2019

متظاهرون سودانيون أمس أمام مجلس الوزراء يطالبون باستكمال أهداف الثورة (Getty)

مثلت الثورة السودانية حالة نادرة في التاريخ الحديث للبلاد، فهي قد استطاعت بسلميتها، وشدة بأس مفجريها من الشباب والشابات، أن تعيد تعريف مفهوم الثورة الشعبية التقليدي والمستهلك في الأذهان، من خلال الشعارات الجديدة التي رفعتها والنابعة من واقع وحاجة السودان الفعلية للتغيير، كما أنها استطاعت أن تمثل دون وجه مقارنة مع ثورات الربيع العربي أكبر حالة تضامن أفقي بين السودانيين داخل البلاد وخارجها، وهو تضامن نابع من الطبيعة التراكمية للمقاومة المستمرة التي واجه بها الشعب السوداني صلف النظام الفاشي بشكل يومي ومتتابع منذ استيلائه على السلطة في حزيران/يونيو 1989، فقد استمدت ثورة كانون الأول/ديسمبر ديناميتها فيما خلقته من وعي ثوري جديد تجاوز بدرجات كبيرة كافة أشكال الانكفاء، والخوف واليأس وهي تصدح بهتافات جريئة أزاحت الستار عن كل المسكوت عنه في المسائل المتعلقة بالحرب والسلام والتهميش والعنصرية.

تكمن فرادة الثورة السودانية في أنها لم تستلهم أيًا من التجارب الثورية الجديدة والمعاصرة في تجارب الدول والبلدان المحيطة بها

تكمن فرادة الثورة السودانية في أنها لم تستلهم أيًا من التجارب الثورية الجديدة والمعاصرة في تجارب الدول والبلدان المحيطة بها، وإنما اتكأت على إرث ثوري تاريخي تعلمت منه دروسًا كثيرة ومفيدة، وهذا هو سبب نجاحها وانطلاقها نحو تحقيق غايتها الرئيسية، والمتمثلة في تحقيق التغيير على مستويين هما تأسيس بنية وعي سياسي جديد متجاوز بشكل كبير لإشكاليات التجربة الحزبية، التي انتهت بخلاصة التفكير في ابتدار حوارات جديدة ومرنة تستهدف أحداث التغيير الجذري، والذي لا تنحصر غايته النهائية في الاستيلاء على السلطة، ففي هذا تبديد كبير للطاقات ومراهنة على خيارات مفتوحة لا تساعد في بناء واقع سياسي جديد يستهدف الحفاظ على اللُحمَة الوطنية التي أصبحت في أوهن حالاتها بفعل سياسات الإنقاذ الرعناء. أما الغاية الأخرى لمشروع التغيير الذى رمت إليه ثورة شباب وشابات السودان، فكان هو التركيز على خلق روابط وطنية جديدة أساسها بناء المستقبل المشترك للسودانيين يغض النظر عن عرقهم ولونهم، أو دينهم، وتلك هي السمة الأهم والضرورية في قياس نجاح أي ثورة، أن تبدأ من العقول وتنتهي  بالتراضي على نظام حكم يُبنى على عقد اجتماعي جديد، يرتكز على قيم الحرية والعدل والكرامة الإنسانية.

اقرأ/ي أيضًا: عن صراع القيم الصاعدة والسائدة

كان العالم يتابع أحوال الثورة السودانية لحظة بلحظة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة المنتشرة في شتى الأرجاء، وبدأت العديد من العواصم تردد شعاراتها الموحدة مع خروج كل موكب يعلن عنه تجمع المهنيين السودانيين الكيان المعبر عن الحراك الثوري اليومي والذي سرعان ما تحول إلى "نفير" سوداني حقيقي للثورة المطرزة بالزغاريد والأهازيج، فبرغم القمع الوحشي الذي واجهته المواكب والتظاهرات، إلا أنها استحقت أن يطلق عليها لقب ثورة التغيير التي واجهت آلة الموت بالفرح والبهجة، وخلقت حوارات جديدة حول المدلول السياسي والاجتماعي للثورة وفرص اكتمال مشروع التغيير عبر الحراك الشعبي، عكس التجارب المتبعة في العديد من الدول والبلدان التي اعتبرت أن الثورة عبارة عن مشروع نخبوي لا تتحقق شروطه إلا في ظل توفر الظروف الذاتية والموضوعية لتغيير نظام الحكم الديكتاتوري القائم، وقد أثبتت تجربة السودان في التغيير العكس تمامًا، فهي بدأت كثورة شعبية، يقودها جمهرة من الشباب من الناشطين والنقابات المهنية، تتقدمهم "الكنداكات والميارم" اللائي مثلن أيقونات الثورة السودانية في ظاهرة نادرة وفريدة لم تشهدها الثورات التي انتظمت في المنطقة بكاملها، فالثورة التي شهدها السودان تعتبر استمرارًا لتاريخ طويل من النضال ضد الأنظمة الديكتاتورية القمعية، ساهمت فيه المرأة السودانية بنضالات مقدرة عززت من فرصها ومكانتها في الحياة العامة.

كانت النظرة للثورة السودانية مختلفة في جنوب السودان الدولة التي استقلت عنها قبل تسعة أعوام، لجملة من التراكمات والأسباب المرتبطة بإشكاليات الدولة السودانية على مر الحقب والعهود، والتي كانت خاتمتها هي حكومة الإنقاذ التي أطاحت بها الثورة السودانية، فمنذ أن بدأت إرهاصاتها الأولى تتشكل انقسم الرأي العام في جنوب السودان إلى تيارين في نظرتهما وتقييمهما لمسار الحراك الذي انتظم في العديد من المدن السودانية في كانون الأول/ديسمبر 2018، فهو الشهر الذي شهد توقيع اتفاق السلام المنشط بين الخصوم والفرقاء الجنوبيين، برعاية من الحكومة السودانية التي يقودها البشير، فما إن انتظم حراك الشارع السوداني حتى بدأت بعض الأصوات تشكك في فرص وإمكانية نجاح احتجاجات الشارع السوداني في الإطاحة بالنظام السوداني، وكانت تلك أصوات محسوبة على الحكومة في جنوب السودان ومناصريها، إلى جانب فصائل المعارضة المسلحة التي كانت تتخذ من خرطوم البشير ملاذًا لها. وقد كان الطرفان يسوغان حجة واحدة مشتركة مرتبطة بمصير اتفاق السلام حال الإطاحة بالبشير ونظامه، وهي مبررات تستند على تقديرات خاصة بالمصالح التي تربط بين المجموعتين بالنظام السوداني، ففصائل المعارضة المستقرة بالخرطوم كانت تخشى صراحة على مستقبلها في ظل غياب البشير، بينما تخشى الحكومة من أن نجاح الثورة يعني صعود التيار الديمقراطي في السودان، وبروز قوى ثورية في الجنوب تطالب بتغيير الأوضاع خاصة الجنوبيين الذين كانوا فاعلين في الحركة الطلابية بالجامعات السودانية وبقية الناشطين الذين كانوا جزءًا من حركة المجتمع المدني في السودان. وقد ظهرت تلك المخاوف بصورة جلية في التصريحات التي أدلى بها وزير الإعلام مايكل مكوي للصحفيين في جوبا محذرًا فيها الشباب من محاولة استيراد التجربة السودانية التي وصفها بـ"الفوضى المستوردة".

اقرأ/ي أيضًا: كاد يمضي العام.. وثورتنا في طريقها إلى الدولة

خلال الفترة الأولى من عمر الثورة، قامت الحكومة في جنوب السودان بابتعاث موفدين رسميين للخرطوم لإيصال رسالة تأييد رسمية للرئيس المخلوع عمر البشير، وبعد الإطاحة به عاد ذات الرسل برسالة تأييد أخرى للمجلس العسكري، حيث كان جنوب السودان في قائمة البلدان التي أكدت دعمها للمجلس العسكري، مع التسليم بأن المجلس نفسه كان يبحث لنفسه عن أرضية تمنحه الاعتراف والشرعية، لذلك أخذت قيادته من العسكريين في الطواف على البلدان المجاورة بحثًا عن ذلك الشرف الذي قدمته له جوبا في طبق من ذهب، وامتدت رسائل التأييد إلى قوى الحرية والتغيير باعتبارها القوة المحركة للثورة، واختتمت تلك التحركات بمبادرة من الرئيس سلفا كير للتوسط بين المجلس وقوى الحرية والتغيير من ناحية وبقية الحركات المسلحة للتوصل إلى تسوية تنهي الحرب وتقود لتحقيق السلام في السودان. وهى المبادرة التي انتهت إلى توصل الأطراف لإعلان مبادئ تم التوقيع عليه بالعاصمة جوبا، وتطمح حكومة الجنوب لاستضافة جولة المباحثات الرسمية للأطراف السودانية، لكن لا يزال هناك خلاف على مقر التفاوض بين مختلف الأطراف حتى الآن.

وجدت الثورة السودانية تعاطفًا كبيرًا وتأييدًا منقطع النظير من قبل شباب جنوب السودان، بالأخص بين الذين عاشوا ودرسوا في المدارس والجامعات السودانية

وجدت الثورة السودانية تعاطفًا كبيرًا وتأييدًا منقطع النظير من قبل شباب جنوب السودان، بالأخص بين الذين عاشوا ودرسوا في المدارس والجامعات السودانية، من الجيل الذي نشأ وترعرع في عهد الإنقاذ، وبدأ تجربة المقاومة سويًا مع جيله الذي أشعل شرارة الثورة في السودان، لذلك لم تمنعه الحدود والفواصل السياسية من المشاركة في دعم وتأييد الثورة التي تستهدف وضع نهاية لذات النظام الذي تسبب في معاناتهم بصورة أكبر من خلال السياسات العنصرية التي استهدفت الجنوبيين في الخرطوم. ولم يتراجع عن مواصلة الحملة الإسفيرية لإسقاط النظام في الخرطوم-بعد أن قامت السلطات بقطع خدمة الإنترنت في السودان كمحاولة منها لمحاصرة الثورة وعزلها عن العالم – وذلك عن طريق تمليك كافة التطورات التي تحدث على الأرض لكافة وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، التي ابتدروا عبرها حملات إسفيرية واسعة تندد بالقمع الوحشي للثوار في السودان وقطع خدمة الإنترنت، أما بالنسبة للشباب الجنوبيين الموجودين في الخرطوم فقد بعثوا برسائل دعم وتضامن كبيرة مع الثورة السودانية من خلال زياراتهم المتكررة لساحة الاعتصام بالقيادة العامة للقوات المسلحة.

في الوقت الذي كانت فيه جوبا والخرطوم تناقشان كيفية تنفيذ اتفاقيات التعاون المشترك الموقعة في أيلول/سبتمبر 2012، عبر مباحثات طويلة وشاقة استمرت لثماني سنوات، كان محورها فتح المعابر أمام حركة التجارة والناس بين البلدين في سبيل تبادل المنافع، اتخذت خلالها الإنقاذ موقفًا متعنتًا قصدت منه التضييق على شعب جنوب السودان لزيادة معاناته وكأنها قصدت أن تعاقبه على القرار الذي اتخذه بالتصويت لصالح قيام دولته المستقلة، إلا أن نجاح الثورة السودانية في الإطاحة بنظام البشير كان بمثابة "المعبر" الرئيسي الذي انفتح ليتسع لنوع مغاير من الحوارات والنقاشات بين الجنوبيين أنفسهم حول أهمية التغيير الذي شهده السودان بعد نجاح الثورة. تلك النقاشات التي قلما كانت تثار بالصوت العالي في المنابر المفتوحة للشباب من الناشطين والمهمومين بقضايا البلد على مستوى الشارع الجنوبي ووسائل التواصل الاجتماعي والصحف وبقية وسائل الإعلام الأخرى في المدن ومراكز التجمعات الحضرية في جنوب السودان، إذ أعطتها الثورة السودانية دفعة كبيرة بسبب أنها كانت القضية المركزية في الحوارات، وقد صدر عدد من البيانات الداعمة للثورة من مثقفين وسياسيين جنوبيين، تقدموا فيها بمجموعة من الرؤى والمقترحات المتعلقة بكافة المسائل التي تهم البلدين. وهو "معبرًا" استصحب في نقاشاته مآلات الأوضاع الداخلية في جنوب السودان بعد الاستقلال، وما آلت إليه بسبب صراعات القادة السياسيين على السلطة وكيفية البحث عن طرائق جديدة للتغيير السياسي والاجتماعي بالسبل والوسائل السلمية، وما يواجه هذا الخيار من صعوبات عملية في ظل سيطرة ثقافة العمل المسلح وضيق الفضاء المتاح أمام ازدهار حركة سياسية مدنية مستقلة وواعية بقضايا الجماهير، لديها القدرة على بث خطاب قومي يتجاوز الاستقطاب الحاد والتسييس الإثني المسيطر على المشهد السياسي الراهن بالبلاد.

اقرأ/ي أيضًا: "دهماء" الاقتصاد السوداني وفرص نجاح الانتقال

لا يزال أمام قوى الثورة في السودان مشوار مهم يجب أن تكمله، وهو حتمًا  ليس بالمشوار الطويل، لكنه يحتاج لحشد طاقات القوى الرئيسية المفجرة للثورة بتشكلاتها وكياناتها المختلفة، كيما تعبر بها نحو تنزيل كافة شعاراتها وأهدافها إلى أرض الواقع بشكل يشعر به الجميع، فمن خلال إشاعة الديمقراطية بشكل كامل وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية في دوائر صنع القرار الرسمي، يمكن أن تتخلق بيئة مواتية للحديث عن بناء شراكة استراتيجية بين السودان وجنوب السودان كدولتين تتمتع كل واحدة منها بالسيادة على شعبها وأراضيها. فدولة جنوب السُّودان هي الأقرب للسُّودان والسُّودانيين، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، باعتبار الصلات التاريخية التي كانت تربط بينهما، فالشعارات والدعوات التي رفعتها الثورة السودانية والمطالبة بعودة الجنوب، كانت تعبر عن تطلعات السودانيين بأن القضاء على نظام البشير يعني عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه بما فيها الوحدة السودانية. فانفصال الجنوب كان ملمحًا عارضًا في أزمة البناء الوطني في السودان، وتمثلات لمراحل من انعدام الثقة بين "الشمال والجنوب"، يسبب عدم الالتزام في الإيفاء بالمستحقات الدستورية، وقمع لحقوق الجنوبيين في التوزيع العادل للثروة وإقصائهم المستمر من المشاركة في السلطة بصورة حقيقية. عليه فالمطلوب أن تتدارك  قوى الثوة في السودان تلك الأعراض التي أفضت إلى تخلي الجنوبيين الطوعي عن الاتحاد السوداني، ومحاولة تجنب تكراره مرة أخرى، عبر مجموعة من التدابير العاجلة التي تضع في قائمة أولوياتها معالجة سؤال الحرب والمواطنة وتحقيق السلام المستدام، وهي المسألة التي فشلت فيها جميع الحكومات الانتقالية التي أعقبت انتفاضتي تشرين الأول/أكتوبر 1964 ونيسان/أبريل 1985، من خلال إصرار القوى السياسية على إقامة الانتخابات وتجاهل معالجة قضية الحرب التي كانت تعتبر قضية السودان الأولى والملحة.

طال القبح والتخريب كل شيء في السودان بدءً من الإساءة والتشويه الذي لحق باسمه وصورته على مدى العقود الثلاثة الماضية، وتحتاج إزالة آثاره إلى عملية ترميم وطنية واسعة

إذًا فهناك عديد من المحطات تنتظر الثورة السودانية، لاستكمال ما نهضت من أجله، فإسقاط النظام كان هو الشعار الرئيسي الذي تعبأت به الشوارع وهو المؤشر الأول على الاكتمال الحتمي لحلقات التغيير المنشود في كافة مناحي الحياة السياسية، الثقافية والاجتماعية في السودان، فمرحلة التفكيك لا تشبه إعادة البناء وإعادة التركيب، فقد طال القبح والتخريب كل شيء في السودان بدءًا من الإساءة والتشويه الذي لحق باسمه وصورته على مدى العقود الثلاثة الماضية، بفضل ممارسات النظام السابق، وتحتاج إزالة آثاره إلى عملية ترميم وطنية واسعة النطاق، تبدأ بإزالة آثار الدولة العميقة والنظام البائد، وتنتهي بالمصالحة بين مختلف أجيال وفئات السودانيين المختلفة وأطيافهم، تكريسًا لمرحلة جديدة من الانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي، تعيد السودان إلى منصة التأسيس وتنطلق به نحو آفاق أرحب من الحرية والسلام والعدالة.

 

اقرأ/ي أيضًا

لنستعِد فلسطين كما استعادت ثورتنا "كولمبيا"

النخب الإسلاموية في السودان.. الظالمون المتظلمون