26-نوفمبر-2019

ثوار سودانيون يرفعون صورة الشهيد الأستاذ أحمد الخير مطالبين بالقصاص لروحه (Getty)

"لسنا ربيعًا.. لا نريد سوى الحديقة كلها"

هذا الشعار الشاعري المفعم بالآمال كان اهزوجة الثوار في مطالع الثورة شتاء2018، وقتها كانت الشعارات تجسد روح الأمل والتحدي والجسارة في مواجهة قوة الدولة الباطشة وقمعها المفرط الذي سعى بشتى السبل لكسر إرادة الثورة ووقف التصعيد الذي انداحت دوائره شيئًا فشيئًا لتغمر أنحاء البلاد، وقد اقتربت الآمال من التحقق حينما تهاوى النظام تحت ضربات مدن السودان التي استنفذت طاقاته وقدراته، حتى كان يوم 6 نيسان/أبريل الأغر حينما تدافعت الملايين غير عابئة بالرصاص وعبوات الغاز المسيل للدموع صوب القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية، حيث انتظموا في أكبر حالة اعتصام شهدها تاريخ البلاد منذ فجر استقلالها.

كانت الثورة فجرًا لمولد الشعب من جديد وكانت شهقة الحياة للملايين، مثلما كانت للقوى السياسية المختلفة التي عانت من حصار وضربات متلاحقة

كانت الثورة فجرًا لمولد الشعب من جديد وكانت شهقة الحياة للملايين، مثلما كانت للقوى السياسية المختلفة التي عانت من حصار وضربات متلاحقة عمقت الانقسامات والخلافات وسط صفوفها بدعم من السلطة وأجهزتها الأمنية، وقد لاحقت القوى خطو الشارع المتسارع الذي أدار ظهره لها موليًا وجهه ناحية تجمع المهنيين السودانيين، على الرغم من كونه جسما مجهولًا وقتها.

اقرأ/ي أيضًا: بروفايل ثوري.. سلسلة كتابات لا نهائية

طوال (30) عامًا هي عمر الصراع النظام البائد في السودان جربت القوى السياسية بلا استثناء كل الوسائل لتفكيك النظام وهزيمته، جربت الانقلابات العسكرية والمظاهرات والاعتصامات والعمل المسلح والاضرابات والتفاوض. في بحثها عن مخرج وقد ألتف النظام على كل تلك المحاولات وأفاد منها وخرجت القوى السياسية صفر اليدين.

ما حدث في ثورة كانون الثاني/ديسمبر المجيدة وصبيحة 6 نيسان/أبريل ومع انهيار النظام من انفراط عقده اندفعت قوى نشأت في كنفه وضمن مؤسساته للتسابق لوراثته وإحكام قبضتها على السلطة خلافة له، فوقع ابتدأ انقلاب الفريق عوض أبن عوف فأفشلته الجماهير واطاحت به بشكل فوري، واعقبه مباشرة صعود الفريق عبد الفتاح برهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" لسدة السلطة مستفيدين من سيطرة قوات الأخير العسكرية على البلاد ومواقعها الاستراتيجية.

فما تم صبيحة 13 نيسان/أبريل 2019 لم يكن انحيازًا للثورة إنما كان انقلابا أبيضًا من داخل السلطة بواسطة عناصر اللجنة الأمنية لنظام البشير المخلوع في إطار سباق محموم لتيارات مختلفة، كانت الغلبة فيه للقوة العسكرية كأمر واقع، بدعم خارجي دافعه رعاية المصالح والسيطرة على مجريات الأمور ومحاولة للتأثير على المعادلات المستقبلية.

لقد افضت معادلات السياسة وتوازنات الضعف والقوة للمعادلات السياسية التي تشكلت في اعقاب مجزرة فض الاعتصام، وهي معادلة لم تسع لها اطرافها، إنما فرضت عليها فرضًا، فقد كانت لكل منهما رغباته ومطامحه.

اقرأ/ي أيضًا: من المسؤول عن جهاز المخابرات العامة؟!

قطاع عريض من القوى السياسية والجماهير الثائرة كانت مصلحتها في تغيير يطيح بالسلطة بالكامل ويحدث تغييرًا جذريًا. اصطدم هذا السيناريو بواقع القوى العسكرية وتوازناتها، ومصاعب التحكم في جهاز الدولة بعد سقوط النظام الذي يسيطر عليه أعوان النظام ويتحكمون في مفاصله.

قادة القوات العسكرية والأمنية كانوا يريدون وراثة النظام والاستيلاء على السلطة بدفع إقليمي يقوم على المصالح وإفراغ الثورة من أهدافها، وكانت العقبة أمام هذا السيناريو هي الاعتصام المليوني أمام ناظريهم الذي ما أنفك يزيد تفاعله ويتضخم محدثًا شللًا كاملًا بمؤسسات الدولة ومعطلًا الحياة، وفارضًا شروطه على المعادلات السياسية المطروحة ومعززًا من موقف القوى السياسية الثورية على طاولات التفاوض.

إذن كان الخيار الأسوأ للطرفين هو التفاوض والحل الوسط، إذ كان كل طرف يسعى للسيطرة الكاملة؛ فالثوار وقطاع عريض من القوى السياسية والمدنية يريدون نصرًا كاملًا ما كان من سبيل لبلوغه أو فرضه وفقًا لطبيعة الثورة السلمية. وتقاعس طلائع من القوى العسكرية في إسناد وحماية الثورة. فهذه المعادلة لا تحققها الإ ثورة كاسحة تقتلع النظام.

وكان مسعى القوى العسكرية ممثلة في قيادات اللجنة الأمنية للانفراد بالسلطة قد عبر عن نفسه بفض الاعتصام، وتهيئة الساحة لقبول خيار تشكيل المجلس لحكومة تصريف الأعباء من قوى حليفة للنظام البائد وتنظيمات فوقية وعناصر الإدارة الأهلية، وقد فشل هذا المخطط حيث استجمع الثوار أنفسهم سريعًا ونفضوا عنهم الأحزان وخرجوا بمواكب لم تشهد البلاد لها مثيلا في  30 حزيران/يونيو 2019. وللمفارقة فهذا التاريخ يمثل تاريخ سطو انقلاب الإنقاذ على السلطة عام 1989. واستبان للعسكر خطل تصوراتهم وحلفائهم الإقليميين وفشل محاولتهم للسطو على الدولة وفرض الانقلاب العسكري.

نتيجة لهذه المعادلات السياسية المعقدة فُرض على الطرفين -القوى السياسية/ المدنية والقوى العسكرية- التفاوض وسط مؤثرات إقليمية ضاغطة مالت لتعزيز موقف المفاوض العسكري خفية.

إن كان من فضل في إفشال السيناريوهات الساعية لاختطاف الثورة فهي تعود بشكل أساسي للشعب السوداني، الذي كشف عن جوهره العظيم حينما استنهض قدراته وطاقاته وخرج مجددًا للشوارع في مليونية 30 حزيران/يونيو مطالبًا بالقصاص للشهداء وتحقيق غايات ثورته، وهو الذي فرض على العسكر ومن يقفون من خلفهم الرضوخ لمطلب إنهاء النظام وتفكيكه وفرض المعادلة السياسية الراهنة.

اقرأ/ي أيضًا: كابوس العقوبات الأمريكية على السودان

ونحن نراجع مسار الأحداث قبل أن ينطوي عام منذ أن اندلعت الثورة في2018 ثمة أسئلة تطرح نفسها، وإجاباتها قد تقود لتأسيس أرضية جديدة تقف عليها القوى المشكلة لتحالف الحرية والتغيير، بعدما أعيتها الخلافات؛ هل ما تحقق مرض في إطار معادلات السياسة والتفاوض وموازين القوى؟. وهل كان بالإمكان أفضل مما كان؟

بالتأكيد كان من الممكن تحقيق الأفضل عبر التفاوض، لكن من الواضح أن القوى السياسية بغير استثناء لم تكن مستعدة للتفاوض ولم تمتلك الخبرة المطلوبة لإدارته، ولم تدفع بمفاوضين قادرين على تحقيق نتائج أفضل مما تحقق، وقد اتضح وفقًا لمسار التفاوض أنها كانت أقل من حجم وآمال وطموحات الثورة، ولهذا أسباب ذاتية وموضوعية من بينها الضعف الذي أحدثته سنوات الديكتاتورية الطويلة في بنية القوى السياسية المعارضة باختلافها.

هل ما تحقق يعتبر انتصارًا؟

نعم فقد سقط النظام القائم حتى 13 نيسان/أبريل 2019 سقوطًا سياسيًا واخلاقيًا، والمعركة الآن والتي لا تقل عن معركة الثورة وعورة وخطورة هي تصفيته وتفكيك مفاصله وإنهاء ميراثه القمعي الاستبدادي.

كيف يمكن تحقيق ذلك؟

يتحقق ذلك من خلال إجراءات تقوم بها الحكومة الانتقالية تحظى بدعم جماهيري وسياسي كامل، وعبر الضغط الجماهيري السياسي المتواصل بكل السبل السلمية المتاحة.

هل زالت المخاطر؟

لا. ولن تزول في المدى المنظور ولا يمكن توقع الخروج من دولة الحزب الواحد التي حكمت البلاد (30) عامًا متواصلة بلا خوض مخاطر كبيرة، ولكن لا تملك القوى السياسية ترف الركون والاستسلام للمخاطر عوضًا عن مواجهتها وهزيمتها.

على القوى السياسية المختلفة أن تثق في شعبها وقدرته غير المحدودة، فالشعب السوداني الذي صنع هذه الثورة العظيمة لن يتنازل عن شعاراتها واهدافها

إن تفكيك دولة الحزب الواحد واعادة بناء الدولة على أسس الكفاءة والعدالة هي مهمة ضخمة وشاقة، ومن المؤكد أن الفترة الانتقالية بسنواتها الثلاث غير كافية لإنجازها، ولكنها على الأقل يمكن أن تضع الأسس لذلك من خلال تعديل القوانين ومعالجة تشوهات الاقتصاد وهيكلة جهاز الدولة وملاحقة المفسدين ومنتهكي حقوق الإنسان بما يمكن من فتح الباب أمام إصلاح شامل.

على القوى السياسية المختلفة أن تثق في شعبها وقدرته غير المحدودة، فالشعب السوداني الذي صنع هذه الثورة العظيمة لن يتنازل عن شعاراتها واهدافها. فلا يمتن أحدًا على الشعب، ولا يزايد أحدًا بما صنعه الشعب، فالشعب منه واليه المآب. وسيحوز الحديقة كلها بعزمه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة نسوية أم ثورة الثورة بلغة جموع النساء؟

رسائل في بريد النخبة.. تأسيسات نظرية