23-نوفمبر-2019

شعار الثورة السودانية (يوتيوب)

للويس ألتوسير مقولة فحواها أن "المعارك النظرية في الفكر هي في الواقع معارك سياسية في النظرية" وأن المعركة الفلسفية حول الكلمات هي في أعلى مراتبها أو أدناها معركة في السياسة. وأن أيما نزاع يثور في عوالم الأذهان يتوارى وراءه بالضرورة رهان سياسي في عالم الأعيان.

ليس ثمة مراء أن انتفاضة كانون الأول/ديسمبر أو إن شئت الترميز، أن انتفاضة المتاريس الظافرة تمثل لحظة تاريخية فارقة في مسير السودان ومصيره

يسري هذا الأمر على نحو أعمق في مسارات الانتقال المضطرب من طور الثورة إلى رحاب الحكم المدني بكافة تراتيبه ومترتباته وموصوفاته ومصفوفاته ومطالبه ومطلوباته، فليس ثمة مراء أن انتفاضة كانون الأول/ديسمبر أو إن شئت الترميز، أن انتفاضة المتاريس الظافرة تمثل لحظة تاريخية فارقة في مسير السودان ومصيره. ليس لأنها اسقطت نظامًا ارتد من نازع الأيديولوجيا إلى حمأة الهويات الإثنية فانقسم في عهده الوطن إلى جنوب ساقه وهم الانعتاق لتأسيس ظلال دولة في مجتمعات ما قبل السياسة، وإلى شمال ظن الاتساق قوة والتنوع ضربًا من "الدغمسة".

اقرأ/ي أيضًا: رسائل في بريد النخبة.. تأسيسات نظرية

وليس لأن النظام نفسه انتقل من الحكم باسم الإسلام إلى الحكم باسم الحركة الإسلامية حين تضاءلت فرص إصلاحه من الداخل وانسدت مسارب الأمل في تغييره من الخارج لطفًا أو عنفًا، وتمسرح المشهد السياسي في تكريس سلطة الرجل الواحد الممسك بتلابيب البلاد والآخذ بناصيتها إلى المجهول.

وليس لأن هوية النظام بدت مشوشة بفعل التناقض بين الشعار المشدود إلى يوتوبيا المدينة الفاضلة والممارسة الغارقة في وحول الارتهان المتأرجح بين محاور شتى وأحلاف متباينة وأنماط من بيع المواقف وتسليع السياسة الخارجية، وليس لأن العمل المؤسسي انقلب إلى نقيضه فبات التجنيب المُسوغ له كتدابير احترازية أمرًا معتادًا في اقتصاد تتجانف قيمه عن نظمه وتناسل نمطًا من الفساد اختلط ببنية النظام فأودى به في وادي الثورة وطريقها المحتوم. بل لأجل ذلك كله خرج الناس من فجاج الأرض وتداعوا إلى فاعل مهم تشككوا في رغبته ووثقوا في قدرته على دعم التغيير الذي جرى وفق سنن الاجتماع الإنساني.

تأسس على التسوية التي تمت طور انتقالي وصم بالهشاشة البالغة على مستوى البناء التحتي والبناء الفوقي بمنطق "الديالكتيك المادي" وإن بدرجات متفاوتة، فلم يزل الناس يعاظلون أوضاعًا معيشية بالغة الشظف وإن خفّت بعض الصفوف واختفت أخرى كصفوف الخبز والنقود، فإن صفوفًا لا تلبث أن تعود مرة بعد مرة كصفوف الوقود سيما في الولايات المشتطة مع تدهور متواصل لقيمة العملة المحلية وتباطؤ كبير في إرفاد الاقتصاد بفرص الاستثمار ومشروعات الإنماء وتحفيز الإنتاج.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة نسوية أم ثورة الثورة بلغة جموع النساء؟

في مقابل بروز الشاغل القيمي والفكري والأيديولوجي واشتعال المجال العام بالمجادلات والمساجلات حول خطاب السلطة وسلطة الخطاب، إذ أثارت تصريحات منسوبة إلى نصر الدين مفرح وزير الأوقاف والشؤون الدينية قبل تأديته القسم نقعًا كثيفًا، وذلك لدعوته "الأقليات اليهودية" التي خرجت من السودان بالعودة إلى البلاد بحق التجنس والمواطنة، وأعادت تصريحاته الموصوفة بالخفة والتعجل أجواء الانقسام الحاد حول التطبيع الذي دارت رحاه في أواخر عهد الإنقاذ على نحو معمق وعابر للفتوى الدينية والرأي السياسي والتعبير الثقافي، إلى المواقف الرسمية سواء بالتصريحات أو بالمواقف الفعلية المضمرة.

الوزيرة انتصار صغيرون التي اعتلت أريكة التعليم العالي بعد ثورة خرجت من عمق ما سمي بثورة التعليم وقد أحسن الصادق المهدي  تشبيهها ببرميل عصير كبير تمت تحليته بملعقة سكر واحدة، انتهجت الحفر في أطباق المعرفة وآثرت أن تختبر حفرًا آخر حين استعارت ذات اللغة الإنقاذية في تجلياتها الهارونية "أكسح أمسح" في غير زمانها ومكانها ومن غير أهلها وفي غير محلها، في مجاوزة كبرى للسياق الانتقالي الذي أبقى على المكون العسكري المنبثق عن اللجنة الأمنية في غور السلطة الخداج وقد تركت كل ذلك وطفقت تطارد أكاديميين بائسين بمظان انتماء زائف لكيان هش، مع اشتراط الإيمان بميثاق الحرية والتغيير، وهو لزوم ما لا يلزم كرافعة للتوظيف في أسوأ تمثل معكوس للوضع المنقلب عليه بوعي مماثل.

ضجة كبرى لازمت تعيين الدكتور عمر القراي أحد دهاقنة الفكر الجمهوري مديرًا للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي ورغم حصوله على شهادة الدكتوراة من جامعة أوهايو الأمريكية في التربية إلا أن جهات كثيرة توجست من استخدامه المنصب لتمرير أجندة فكرية وصفوها بالشاذة، مما اضطره أن يعلن عدم استئثاره بالمنصب واتخاذه مطية للتأثير على النشء وسوقهم باتجاه الفكر الجمهوري الذي يعتمد مؤسسه تأويلًا مغايرًا للمألوف في إعادة بعث الرسالة الثانية من الإسلام، على الأسس المضمرة في القرآن المكي "آيات الأصول" الناسخة للسور المدنية "آيات الفروع". لم تنته المسألة في حدود التعيين الذي عدّه البعض مربكًا ويثير من الإشكالات أكثر مما يفيد مقاربة المعالجات، وإنما امتدت إلى تسريبات حملتها بعض الصحف حول توجيهه، أي السيد القراي، بسحب الأحاديث والآيات القرآنية من مقررات اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا والأحياء والعلوم وتخفيف مقرر التربية الإسلامية وذلك لدى اجتماعه بخبراء المناهج ببخت الرضاء بمدينة الدويم، وهي مسألة تمثل في أدنى مراتبها إشغال للمحل بحركة المناسبة وفي أعلاها إثارة معارك في غير معترك وتعيد إلى الأذهان الضجة التي أحدثها كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، الذي أدخله إلى سوح القضاء قبل أن ينقله من الجامعة إلى وزارة المعارف ثم ينتهي بفصله بعد أعوام.

اقرأ/ي أيضًا: لجان المقاومة واحتمالات جنينية لموجة ثورية ثالثة

ليس أسوأ من الإثارات والإشارات أعلاه إلا الاعتراك على مشروعية كرة القدم النسائية بين الوزيرة ولاء البوشي والشيخ عبد الحي يوسف والتصعيد الإعلامي والتعبئة والحشد بين فسطاطي نصرة الشريعة ودعاة المدنية. المقابلة التي أريد لها أن تتصدر مشهد الانتقال العزيز والمتعثر سرعان ما اختفت لتظهر من جديد مع إثارة موضوعة التوقيع على سيداو وإلغاء كافة أشكال التمييز ضد المرأة وما أحدثته بالضرورة من ضجة امتدت من الميديا إلى الميادين.

ومن خلال النماذج الشاخصة والمتعينة التي أوردنا طرفًا منها لصراعات القيم الصاعدة والقيم السائدة ترتسم في أفق العلاقة الجدلية مفارقات شتى، وهي أن جل ما أثير موصول السند بالحقبة الإنقاذية المثار ضدها والباقية في عناصرها الوظيفية، بعد تحلل المكون الأيديولوجي وذهابه مع ريح المفاصلة وتغليب المنطق البراغماتي في صورته الذرائعية والوصول به أو معه للتعاون الاستخباراتي مع العدو الصائل. ولأن حكم الشيء فرع عن تصوره فقد ساغ لدى بعض النخبة الحاكمة حينها مدفوعة ربما بمبررات فقه الضرورة، لا ما هو معلوم من الفقه بالضرورة على الأقل في متون السياسة الشرعية وأحكامها السلطانية، إلى مناقشة إمكانية التطبيع مع الحكومة الإسرائيلية كما صرّح وزير الخارجية حينها إبراهيم غندور في لقاء مشهود بمركز دراسات المستقبل. وغني عن القول أن استعارة الوزيرة صغيرون للغة الإنقاذ البالية فضلًا عن منهج الإقصاء الكامن في حقبة التمكين أشبه باستبدال ذات الدواء من شركة أخرى.

أما سيداو ومناقشة قانون الأحوال الشخصية وإتاحة قدر أكبر للحريات الاجتماعية فكلها جرت في عهد الانقاذ دون أن تغير من الأمر شيءً

أما سيداو ومناقشة قانون الأحوال الشخصية وإتاحة قدر أكبر للحريات الاجتماعية فكلها جرت في عهد الإنقاذ دون أن تغير من الأمر شيئًا، لأنها كانت على أهميتها منظورًا إليها بظروف الزمان والمكان معالجات نخبوية انتقائية فوقية تحرر من المسائل أكثر مما تقرر من الأحكام وتحتاج إلى حلول أكثر جذرية في ميادين العدالة ومحاربة الفقر والبطالة وتحفيز قيم الإنتاج وإنتاج القيم الحقة الصاعدة منها، والسائدة لتسهم مع عوامل أخرى في تشكيل واقع جديد يحمل للناس أحلامها التي التحمت بها منذ عهد الثورة الباكر، ويمنحها بعض العزاء فيمن مضى أو من ينتظر دون أن يبدلوا أو يلقوا عن كواهلهم سلاح الوعي بالمطالب، والمطالبة بوعي، وتلخيص المسألة في إيقاف المسار الدائري لأزمة الحكم المتطاولة وتصويب خط التطور المعكوس. والتي أجملها وجمّلها شعار الثورة الأثير "حرية سلام وعدالة" والثورة خيار الشعب.

 

اقرأ/ي أيضًا

أوراق في اللغة والحب والسياسة.. حريّة سلام وعدالة

رفقاً بـ"حمدوك".. نُخب فاشلة أم بُناة دولة؟