03-يناير-2020

المخلوع البشير ومدير جهاز أمنه صلاح قوش (العرب اليوم)

يخوض الناس نقاشات مطولة في مسألة جهاز الأمن أو "المخابرات العامة" بحسب مسماه الجديد، فمن المهم معرفة كيف تشكل هذا الجهاز الذي أحاط بالمشهد السياسي لثلاثة عقود، وطبقت شهرة ممارساته وانتهاكاته الآفاق، فمعرفة ما تواجهه هي الخطوة الأولى لمعرفة كيف تواجهه.

تولى البشير منصب نائب رئيس لجنة التحقيق مع عناصر أمن نظام (مايو) المباد بعد انتفاضة نيسان/إبريل ١٩٨٥ وتولى تأمين أسرار ومعلومات الجهاز

في انتفاضة نيسان/أبريل ١٩٨٥ وحينما حاصرت الجماهير المنتفضة مباني جهاز الأمن، كان المقدم وقتها عمر حسن أحمد البشير "الرئيس المخلوع حاليًا" هو قائد قوة سلاح المظلات التي قامت بتأمين وحماية مباني ووثائق وضباط جهاز الأمن، بعد التصعيد الجماهيري الكبير، الذي استهدف ضباط الجهاز والمظاهرات أمام مبانيه، ولاحقًا كان البشير هو من قام باعتقال ضباط الجهاز بعد توجيهات صدرت له بذلك من القيادة الجديدة للبلاد.

اقرأ/ي أيضًامصادر خاصة: قوش والمهدي اتفقا على استلام السلطة وتقاسما ملايين الدولارات

ويقول هاشم أبورنات مدير مكتب عمر محمد الطيب مدير جهاز أمن (مايو) المباد، في حوار أجراه معه الصحفي عبد الباقي الظافر ونشر بصحيفة آخر لحظة قبل أعوام "الرئيس عمر البشير-وقت إجراء الحوار-، كان هو المسئول من حراساتنا داخل الجهاز، وصلى معي وقال لي خائفين على المستندات حقت الجهاز ما تقع في يد زول، وسألني عن مكانها، وأبلغته. كانت في العمارة الضخمة في داخل مباني الجهاز، وبعض الوثائق التي سلمت لم تكن لها قيمة لكن الوثائق المهمة استلمها العميد الهادي بشرى وضباط آخرون.

وينفي أبو رنات حرق أي مستندات أمنية قائلًا المستندات لم تكن توجد في المكاتب، لكنه مع ذلك يقر بالتخلص من بعض المستندات، موضحًا أنها كانت عبارة عن وثائق شخصية، رواتب، وأسماء شخصيات ومعاملات خاصة، كان من حق أي شخص أن ينظف أدراج مكتبه.

ولكن تشير معلومات صحفية أخرى نشرت قبل سنوات ومن ضمنها إفادات للبشير نفسه إنه قام بإطلاق سراح العقيد محمد الفاتح الملك المسئول عن خزائن معلومات الجهاز وسجلاته التي تحتوي على معلومات السودان الأمنية منذ العام ١٩٠٨.

وقد تولى البشير بنفسه منصب نائب رئيس لجنة التحقيق مع ضباط جهاز أمن (مايوم) المحلول، وقد وردت معلومات على لسان هاشم أبو رنات في ذلك الحوار عن التحقيق الذي تم معه بواسطة البشير، واصفًا إياه بأنه كان وديًا.

ولتوضيح أبعاد مشاركة الرئيس المخلوع البشير في أعمال لجنة التحقيق تلك، ولمعرفة الخلفيات التي ساهمت في بناء جهاز الأمن الحالي وساهمت في انقلابه على النظام الديمقراطي، وتصوراته اللاحقة لعمل الأجهزة الأمنية، فلنقف على ما كتبه مصطفى عبد العزيز البطل الذي كان في ذلك الزمان موظفًا بمجلس الوزراء مما يضفي على كتابته درجة من الموثوقية، كما أنه لم يتم نفي ما ورد فيها من أي جهة كانت، يقول البطل في الحلقة الأولى من مقاله المعنون "غواصات سودانية" التي نشرت على موقع "سودان تريبون" بتاريخ ٢٣ آب/أغسطس ٢٠١٧: "يزعم الزاعمون أن جميع أوراق ومستندات وملفات جهاز أمن الدولة ذات القيمة النوعية والحساسية السياسية العالية قد تسربت، صورًا ومضمونات، إلى الجهاز السري لحزب الجبهة الإسلامية، إبان مشاركة الغواصات الإسلاموية في مهمة تصفية وإنشاء الجهاز الأمني الجديد، وكذلك الحال بالنسبة للقوائم التي تحتوي على أسماء المتعاونين مع الجهاز من الشخصيات العامة وطبيعة ذلك التعاون، وما اكتنفه من عطايا وتساهيل مادية لبعض السياسيين، وقد كان من ضمن هذه الغواصات، كما هو في علم الكثيرين، الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير، حفظه الله، الذي عمل برتبة عقيد نائبًا لرئيس لجنة حصر وتصفية جهاز أمن الدولة المايوي".

اقرأ/ي أيضًا: مترجم: "حميدتي" يتحدث عن الإبادة الجماعية والذهب والحروب الخارجية

كما نعلم جميعًا إن قاعدة البيانات الضاربة التي تملكتها الجبهة الإسلامية-بينما الأحزاب الأخرى غارقة في عسل الديمقراطية-، ربما كانت من ضمن الأدوات الحاسمة التي استغلتها الجبهة في إدارة المساومات السياسية، وإعادة صياغة وتصميم مسارح الحياة العامة عقب الانتفاضة، وقد كانت اللجنة التي وقف عليها العقيد بشرى ونائبه العقيد عمر حسن أحمد البشير وغواصاته بمثابة قاعدة الانطلاق التي قام عليها "جهاز أمن السودان".

ومن عجب أن ذلك الجهاز الذي جرى تشكيله بغرض حماية النظام الديمقراطي أسهم بقدح معلّى في تدبير وتنفيذ الانقلاب الإنقاذوي، إذ كان عدد من قادته وكادراته والغون حتى الآذان في مؤامرة الانقلاب.

ولعل تلك من المرات النادرة في التاريخ التي يُسند فيها أمر تشكيل الكيان المسئول عن حماية الحكومة وحراسة أمن البلاد القومي إلى غواصات" بحسب إفادة البطل.

بعد انقلاب الإنقاذ اعتمد على خبرات المايويين في تأسيس جهاز الأمن مع عناصر المكتب الخاص للجبهة الإسلامية

وبعد أقل من أربع سنوات أطاح عمر البشير نائب رئيس لجنة التحقيق مع عناصر أمن مايو بالنظام الديمقراطي، واستعان بعناصر جهاز الأمن المحلول الذين كون عنهم فكرة كاملة هو وتنظيم الجبهة الإسلامية عبر مكتبها للعمل الأمني والعسكري والذي كان يتولى الإشراف عليه علي عثمان محمد طه باعتباره حلقة الوصل وهو نائب الأمين العام للجبهة الإسلامية-وصل لاحقًا لمنصب النائب الأول لرئيس الجمهورية- ويضم قيادات مدنية مثل نافع علي نافع وصلاح قوش ومحمد عطا "تبادلوا جميعًا رئاسة جهاز الأمن" وعلي كرتي وعوض الجاز وكمال عبد اللطيف "ظلوا مشرفين على العمل الأمني والعسكري حتى سقوط النظام" وغيرهم من الكوادر، كون عنهم ذلك التنظيم معلومات شاملة وكاملة من خلال الوثائق التي صارت بحوزته، ومن خلال العمل الذي قام به قائد الانقلاب نفسه عمر البشير ضمن عمله في لجنة التحقيق، وقد أسهمت المعلومات الشخصية التي تحصل عليها في وضع أساس عملية بناء جهاز الأمن الحالي وتأسيس إداراته، لذلك لم يكن غريبًا أنه استعان بخبرات اللواء الفاتح الجيلي والفاتح عروة وعثمان السيد وعاصم كباشي وغيرهم من قيادات جهاز أمن مايو في تأسيس جهاز الأمن والقيام بأدوار قيادية واستشارية حينما تشكل الجهاز من الكوادر الأمنية والعسكرية للحركة الإسلامية، التي كانت أقرب للعسكر بحكم مجالها ولعزلها عن العمل التنظيمي لسنوات وإغراقها في المهام الخاصة.

ونظرًا لارتباط عمل المكتب الأمني والعسكري للجبهة الإسلامية بالحركة الطلابية بشكل رئيسي، فقد صارت هي المورد الأول للكوادر من خلال تنظيم الاتجاه الإسلامي وأذرع الحزب من المنظمات الشبابية والطلابية والاجتماعية، لذلك فقد غلب على تشكيل الجهاز في سنواته الأولى الاعتماد على كوادر طلابية ومن الخريجين الذين كانت لهم صلة بهذا المكتب، ومن يرشحونهم ويزكونهم أعضاء الجهاز والمنتمون إليه من الحركة الإسلامية.

حرص البشير أن يكون الجهاز تحت سيطرته الكاملة مستظلًا بسلطاته وهذا الوضع أطلق يد الجهاز بلا ضابط أو رابط

وقد حرص الرئيس المخلوع عمر البشير على أن يكون الجهاز تحت سيطرته الكاملة لا يشاركه ولا ينازعه سلطاته فيه أحد، وفي الغالب إن ذلك حدث بناءً على توصية تلك القيادات المايوية المتمرسة التي عايشت تجربة سقوط نظام (مايو)، ورأت كيف يتخلى القادة عنهم في آخر اللحظات، ولعل في ذلك ما يفسر تقارب المخلوع مع اللواء معاش الفاتح عروة مدبر فضيحة ترحيل يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى فلسطين المحتلة في عهد الديكتاتور المخلوع النميري، وكذلك تقاربهم في كل المنعطفات والمهددات التي مر بها النظام البائد.

اقرأ/ي أيضًا: مترجم: شبكة التمويل السرية لقوات الدعم السريع في السودان

ومما روى البشير خلال أيام المفاصلة بينه وبين زعيم الحركة الإسلامية حسن الترابي واقعة تشير إلى أنه منذ وقت مبكر عمل على تجنيب الجهاز أي متابعة أو مراجعة سياسية لعمله، حيث جاءه نافع علي نافع حينما كان مديرًا لجهاز الأمن شاكيًا من المعاملة التي يلقاها كلما ذهب لتقديم تنوير للأخير حول عمله، إذ أنه يبقيه لساعات طويلة في الانتظار، ولا يقابله إلا بعد أن يفرغ من مقابلة كل وزراء ومتنفذي الحركة الإسلامية، ويقول البشير إنه قال لنافع لماذا تذهب اليه من الأساس، لا تذهب وتعال وراجعني أنا في شئون عملك.

وقد زادت الحماية التي يضفيها البشير على الجهاز وتبعيته المباشرة له درجة كبيرة من الاستقلالية لأفعاله وأطلقت يده بلا محاسبة ولا رادع، وخولته للتدخل في شئون إقليمية ودولية بتفويض منه، بل وحتى في اتخاذ سياسات وقرارات كبرى، وفي تجنيبه أي نوع من المحاسبة والمساءلة التنظيمية، مثل تورط قياداته في واقعة محاولة اغتيال حسني مبارك، وبعدها تم الإطاحة بمدير الجهاز نافع علي نافع ومدير الأمن الخارجي وعدد من الكوادر الأمنية، غير أنه سرعان ما استعادت مجموعة العمل الأمني والعسكري زمام الأمور.

وتبعا لهذه الوضعية التي أبعدت الجهاز من أي تأثير تنظيمي مباشر على قراراته وربطت ذلك بشكل مباشر بالبشير، أبقت الحركة الإسلامية على جهاز أمنها التنظيمي الذي يمثله "الأمن الشعبي" لمغالبة هذا الواقع الذي مثله تكوين جهاز الأمن، واعتمدت في قيادته على بقايا مكتب العمل العسكري والأمني، وطورته ورفدته بكوادرها الطلابية والخريجين والموظفين، ليصبح جهازًا موازيًا للجهاز الرسمي، ويتقاطع معه من خلال الكوادر التي تتنقل ما بين الجهازين، ولذلك كانت أولى المهام التي أوكلت لجهاز الأمن عند وقوع المفاصلة بين الإسلاميين هي تنفيذ قرار حل وتصفية الأمن الشعبي، واعتقال قياداته ومطاردة ومحاصرة عناصره بلا هوادة، لخطرها الذي تمثله من حيث امتلاكها للمعلومات والموارد والكوادر، ما يجعلها قادرة على تشكيل خطر يهدد الدولة وأعمالها والانقلاب عليها، لا سيما مع صعوبة تبين المؤيدين حقًا لكل طرف في ذلك الصراع، وكانت هواجس تجربة الحزب الشيوعي في تموز/يوليو تحاصر طرفي الصراع وعلى رأسهم حسن الترابي لذلك نأى عن العمل العسكري الانقلابي لا زهدًا وقناعة غالبًا، ولكن خوفًا من مصائره وعواقب فشله، وحرص على المواجهة السلمية بهدف الضغط على النظام وتركيع تلاميذه، دون فتح الباب لعمل جدي يستهدف اسقاطهم.

أعتمد البشير كليًا على جهاز الأمن في معرفة من يصلحون للعمل من حوله، وازدادت هذه المساحة بإدخال الأمنيين لساحات العمل التنفيذي كوزراء وولاة ومسئولين

وقادت عملية المفاصلة بين الإسلاميين لتحول كامل في طريقة تعامل البشير مع جهاز الدولة، حيث أعتمد اعتمادًا كليًا على جهاز الأمن في تحديد ومعرفة من يصلحون للعمل من حوله، وازدادت هذه المساحة بإدخال الأمنيين لساحات العمل التنفيذي كوزراء وولاة ومسئولين، وتحديد درجة ولاء الإسلاميين الذين يراد ترشيحهم للمناصب، وإضعاف القوى السياسية المناوئة وشق صفوفها بأجنحة توالي السلطة وتعمل معها، وتستهدف أحزابها الأم، وجاءت لحظةً كان عددًا كبيرًا من الولاة ومسئولي الدولة من منسوبي هذا الجهاز، أو ممن مروا بتجربته، أو المرضي عنهم من قبله.

ولعله من المهم الإشارة إلى أن الإسلاميين الذين ساهموا في بناء هذا الجهاز، أو برروا انتهاكاته، أو تغاضوا عنها، كان بعضهم أكثر من دفعوا الثمن، حيث لوحقوا وتم اغتيال بعضهم في إطار استهداف الكوادر التي تعمل في القطاعات الأمنية والعسكرية والطلابية، كحاضنة رئيسية للتجنيد في صفوفهم ومركز أساسي لرفده بالكوادر النوعية كضباط، كما عانى بعضهم من السجن لفترات متطاولة، وكانت خشية النظام البائد منهم مرجعها كما أسلفنا أعلاه لصعوبة تبين الانتماءات الحقيقية فالطرفين الذين كانا جزءً من تنظيم موحد، انقسما ولكن تشبث كل منهما بأحقيته بالمشروع الإسلامي، فاصبحا تؤامًا سياميًا فصله يهدد حياته وبقائه للمفارقة يفعل. وصار جهاز الأمن هو "فرانك شتاين" الذي صنعاه معًا ولم يعودا قادرين على التحكم به.

 

اقرأ/ي أيضًا

مقتل مواطنة وإصابة 8 بعد تفريق الشرطة لحشود بالقوة

مدني عباس يكشف لـ"الترا سودان" أسباب مثوله أمام لجنة التحقيق في فض الاعتصام