24-أكتوبر-2019

البراق النذير يتوسط زملاءه وأصدقاءه بعد عودته إلى الخرطوم (الجزيرة)

عندما حطت الطائرة التي تقله في مطار الخرطوم مساء الأسبوع الماضي، شعر كاتب بيانات الثورة السودانية وعضو تجمع المهنيين السودانيين البراق النذير، أنه وصل إلى بلاد خرجت للتو من قبضة أمنية باطشة استمرت ثلاثون عامًا، وأمامها مشوار طويل مدعومًا بالأمل للوصول إلى التحول الديمقراطي الذي تنشده الثورة، هكذا يعتقد البراق النذير(42عامًا).

البراق النذير: منذ كانون الثاني/يناير الماضي وبعد خطاب للرئيس المعزول عمر البشير، أيقنت تمامًا أنه خطاب الوداع

كان السودانيون نهايات العام 2018 وتحديدًا في أيلول/سبتمبر، يملأهم الإحباط ويجأرون بالشكوى طوال الوقت، جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية وشح الخدمات ورداءتها وتهالك البنية التحتية وانعدام ضروريات الحياة، مع اشتداد أزمة السيولة والوقود والخبز والدواء، يقول كاتب البيانات التي كان ينتظرها الملايين من الثوار السودانيين لتنشر على صفحة تجمع المهنيين السودانيين أيام الثورة، لتحدد مواقيت التظاهر ونقاط التجمع وخط سير المواكب، ومن ثم ترصد الانتصارات وتسجل انتهاكات النظام وتبث العزيمة في الثوار بأن الفجر آت، ليقوم عشرات الآلاف بمشاركتها في صفحاتهم بفيسبوك ويحتفون بها، يقول "البراق النذير" لـ"الترا سودان" منذ كانون الثاني/يناير الماضي وبعد خطاب للرئيس المعزول عمر البشير، أيقنت تمامًا أنه خطاب الوداع لأنه صار شخصًا غير مرغوب به داخليًا وخارجيًا".

اقرأ/ي أيضًا: إجراءات قانونية بحق 100 سوداني رحلتهم ليبيا إلى "دنقلا"

أنهى البراق النذير عمله في السودان بعدما لاحقه جهاز أمن النظام البائد بالاستدعاءات والتحقيقات وتعطيل ترخيص "المرصد السوداني لحقوق الإنسان" الذي كان يشغل فيه منصب المدير التنفيذي. غادر بعدها السودان إلى هولندا في أيلول/سبتمبر 2018 قائلًا أنه "خطط للهجرة لأن جميع الأبواب سُدت أمامه، لكن دون يغفل انخراطه في قوى المقاومة المدنية السلمية التي تعمل للإطاحة بالنظام الحاكم، كانتمائه لتجمع المهنيين عبر بوابه قطاعه المهني الذي انتسب له (شبكة الصحفيين السودانيين)".

في ساعات متأخرة من الليل كان السودانيون يترقبون على هواتفهم المحمولة، بيانات تجمع المهنيين السودانيين، سيما بعد خروج المواكب ظهر نفس اليوم، فالتجمع الذي أخفى العديد من قادته بعيدًا عن أعين رجال المخابرات والأمن، كان يدير العملية الإعلامية من صفحاته على منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك الأكثر استخدامًا في السودان.

في السادس من نيسان/أبريل 2019 دخل البراق النذير مرحلة القلق على مصير الثورة الشعبية، التي ارتفعت سقوفها نحو الخلاص من النظام الذي جثم على صدر البلاد ثلاثين عامًا يقول عن تلك الأيام: "منذ السادس من نيسان/أبريل حتى الحادي عشر منه عندما أعلن العسكريون الإطاحة بالبشير نزولًا عند رغبة الملايين الذين تواجدوا في ساحة الاعتصام أمام مقر وزارة الدفاع السودانية، كنت أشعر بالقلق توقفت عن النوم تمامًا. كانت أيامًا مفصلية في عمر البلاد".

فور إعلان وزير الدفاع السابق عوض بن عوف بيان الإطاحة بالبشير، لم يخف البراق النذير تشاؤمه من استمرار رجال جلبهم البشير لحمايته، وتخلص من هذه المخاوف إلى حد ما بعد تنحي بن عوف خلال ساعات، ويرى البراق النذير أن بإمكان الفترة الانتقالية العبور إلى بر الأمان لوجود عوامل كثيرة، أبرزها وعي الأجيال التي أطاحت بالبشير ونظامه، بجانب عدم رغبة السودانيين في إعادة كارثة النزوح والهجرة التي طالت سبعة ملايين سوداني بين معسكرات النزوح والمهاجر والملاجئ، مستطردًا "لا أعتقد أنه سيتكرر على السودانيين مشاهد أكثر سوءًا من تلك التي  ارتكبها نظام البشير، ولا أعتقد حدوث أسوأ مما حدث".

البراق النذير: تواجد النساء في معركة التغيير واحدًا من العوامل التي ساعدت على حراسة الثورة الشعبية وجعلتها تبلغ أهدافها

بالنسبة للنذير الحاصل على بكالوريوس العلوم البيئية من جامعة أمدرمان الأهلية، فهو يعتبر أن "تواجد النساء في معركة التغيير واحد من العوامل التي ساعدت على حراسة الثورة الشعبية وجعلتها تبلغ أهدافها" سيما تصدرهن للفترات التي شهدت فيها الاحتجاجات عنفًا مفرطًا من قوى الأمن والشرطة وكتائب الظل، وعدم تراجعهن تحت وابل من الرصاص".

بات الخوف من "انتكاسة الفترة الانتقالية" أحد أقوى الهواجس التي تسيطر على القوى المدنية التي أطاحت نظام البشير، ويعتقد النذير أنها مخاوف مشروعة لكنه يدعو إلى  "النظر إلى عامل آخر وهو عدم استعداد المجتمع الدولي لانزلاق السودان إلى الفوضى، بالتالي المحافظة على المشروع القائم وصولًا إلى قيام انتخابات ديمقراطية في نهاية الفترة الانتقالية"، ويضيف النذير "بعض التجارب المحيطة بالسودان كانت سيئة وليس من السهولة أن يفرط العالم في استقرار الوضع الراهن في السودان".

كان من الصعب التكهن بسقوط نظام البشير، خاصة مع الدعاية الإعلامية المساندة لحزب المخلوع البشير، والتي كانت تحذر باستمرار أن البديل هو الفوضى الأمنية. هذا الخطاب تسرب حتى بين قوى سياسية مناوئة للنظام، لدرجة إعلانها خوض الانتخابات في 2020، فيما كان النذير يؤمن بإقتراب التغيير. يضيف "تزايدت قناعاني بذهاب نظام البشير بلا رجعة في أول ثلاثة مواكب احتجاجية خرجت في كانون الأول/ديسمبر الماضي وكانون الثاني/يناير".

تقول زوجة البراق النذير، الصحفية والناشطة النسوية سارا ضيف الله لـ"الترا سودان": "عشنا فترات عصيبة عندما كان البراق النذير بعيدًا عنا مرغمًا لا مختارًا، لكن ماذا بوسعنا أن نفعل؟ كان يؤدي واجبه تجاه وطنه، وكان رفقة آخرين قاموا بمهام وطنية وهذا واجبهم، كان هاتفه مشغولًا طوال اليوم، أطفاله يسألون عنه باستمرار وقد لا نتمكن من محادثته طوال الأسبوع، كان هناك من هم أسوأ منه حالًا وراء القضبان، وجرحى المواكب، وذوو الشهداء، لكنني لم أكن أملك إجابة لأطفاله حينما يلحون في السؤال عنه".

في مطار الخرطوم فور وصوله كان آخر شيء تمناه البراق النذير هو استقباله بواسطة حشد من الزملاء والأصدقاء والعائلة، أو حتى من تطلعوا لرؤية الشخص الذي رسمت بياناته الجماهيرية خارطة آمالهم، فالشاب الذي عاش بعيدًا عن الأضواء الإعلامية، يشعر بالخجل في أحايين كثيرة، ويفضل العمل في صمت كونه يتحمل مسؤولية تاريخية لا تتيح الانصراف له إلى أشياء يعتقد أنها غير مهمة، هكذا تقول زوجته سارا لـ"الترا سودان".

حرص تجمع المهنيين السودانيين إبان الثورة على كتمان هوية معظم الفاعلين المهمين في هياكله التنظيمية، كان أحد الذين كتمت هويتهم وأحيطت بستار من التعتيم السميك، هو كاتب بيانات تجمع المهنيين، كان الجميع يسأل عن هويته، في كلا المعسكرين، معسكر الثورة ومعسكر النظام البائد، كان معشوق الجماهير الثائرة يمحضونه حبًا نقيًا لا يشوبه رياء برغم عدم معرفتهم هويته، للدرجة التي دفعت البعض لإطلاق ادعاءات أنهم هم من يكتب البيانات الجماهيرية للثورة، كتبت إحدى الثائرات مرة تعليقًا على إحدى بيانات تجمع المهنيين المنشورة على صفحته بفيسبوك تقول: "أن كاتب بيانات تجمع المهنيين لو تقدم لخطبتها فلن تطلب سوى خطاب يكتبه بذات اللغة الرفيعة التي يكتب بها البيانات لجماهير الثوار".

كان الجميع في شوق لمعرفة الشخص الذي كتب تلك البيانات الساحرة، كان الثوار يسهرون الليالي ليطالعوها قبل أن يستعدوا لمواكب الغد، إلى أن ظهرت شخصية ساحر جماهير الثورة عقب توقيع الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية بين قوى التغيير والمجلس العسكري. ليعلم الجميع أنه الشاب بٌراق النذير صاحب الابتسامة التي لا تفارق وجهه.

اقرأ/ي أيضًا: الحكومة والثورية تتفقان على لجنة لخارطة الطريق ومقر التفاوض

يتوجه البراق النذير بنصائح إلى مجموعات وجيوب النظام البائد، بأن التغيير الذي حدث جاء بعد تجربة ثلاثين عامًا من المقاومة، ولا يمكن إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، فإن كان ثمة خطوات لعودة هذه القوى إلى الفضاء العام، عليها أن تجري مراجعات عميقة لتحديد مواقعها أولًا، ويرى البراق النذير أن "مقاومة التغيير تؤدي إلى تكلفة باهظة، على هذه القوى وعلى البلاد".

كان الجميع يسأل عن هويته، في كلا المعسكرين، معسكر الثورة ومعسكر النظام البائد، كان معشوق الجماهير الثائرة يمحضونه حبًا نقيًا لا يشوبه رياء برغم عدم معرفتهم هويته

يضيف البراق النذير "شاهد السودانيين تجربة نظام البشير ثلاثة عقود، إن آخر ما يفضلونه هي إعادة التجربة مرة أخرى، ولتمتين هذا الشعور لا بد من إشراك قوى المقاومة الشبابية والنسائية في الفترة الانتقالية في مراكز صنع القرار، لأنها أكثر الشرائح الاجتماعية التي تشعر بالانتماء لمشروع التغيير، بالتالي لديها الرغبة في حراسة المكاسب التي حققتها الثورة.

اليوم يغادر البراق النذير محطة الثائر ليلتحق بالحكومة الانتقالية في منصب مدير الإعلام بمكتب رئيس الحكومة الانتقالية، لكن لا يتهيب النذير خوض تجربة حراسة الفترة الانتقالية من أي موقع، فهو يشعر أن المصلحة العليا تقتضي التصدي للمهام دون تردد، من باب الاستجابة للتكليف في هذه المرحلة المفصلية من عمر الوطن.

 

اقرأ/ي أيضًا

"خطوة لإنهاء العزلة".. دبلوماسيون أمريكيون يفتحون حسابات بنكية في السودان

حمدوك يبحث مع سفير قطر اجتماعات اللجنة العليا المشتركة