28-ديسمبر-2019

رعاة يسقون ماشيتهم من بئر تقليدية بشمال كردفان (Getty)

يظل غلاء المعيشة هو وحش حياتنا الثابت والمقيم في هذه البلاد التي قلبت ثورة كانون الأول/ديسمبر أحوالها من سودان ما قبل الثورة إلى سودان ما بعد الثورة المستمرة. إن غلاء الأسعار هو الوحش الوحيد الذي سيظل متنمرًا ومتربصًا برئيس وزراء حكومة الفترة الانتقالية عبدالله حمدوك طوال ما تبقى من الثلاث سنوات، سواء استجار خبير التنمية الدولية حمدوك بالمجتمع الدولي لإعفاء الديون أو رفع اسم السودان من قائمة الدولة الداعمة للإرهاب، أو اثتوَّثق من ضخ المزيد من الأموال والقروض والمنح التي قد يثمر عنها مؤتمر المانحين في منتصف العام القادم. ومع الشروع في  إجازة الموازنة العامة للعام 2020، فإن إرهاصات رفع الدعم تثير جدلًا واسعًا في الأوساط الاجتماعية والسياسية، منذرة بحدوث تحول غير مضمون العواقب في تفكير الناس ومواقفهم الثورية تجاه حكومة الفترة الانتقالية التي لا ينتظر منها الناس سوى تخفيف الضائقة المعيشية بالحد من الارتفاع الجنوني للأسعار وتوفير الخبز والأدوية المنقذة للحياة وضرورات العيش الأخرى.

إذا صح عزم الحكومة رفع الدعم عندها قد تأخذ العلاقة والأدوار بين تحالف قوى الحرية والتغيير والحكومة منعطفًا حاسمًا، لا أحد يعرف كيف ستسير معه تدابير الأمور لاحقًا

وإذا صحَّ ما هو رائج ومتواتر من معلومات عن أن رفع الدعم سيكون هو التوجه الأساسي لحكومة الفترة الانتقالية لمعالجة شُّح الإيرادات وضعف المخصصات، عندها قد تأخذ العلاقة والصلاحيات والأدوار المشتركة بين تحالف قوى الحرية والتغيير وحكومة الفترة الانتقالية منعطفًا حاسمًا لا يعرف أحد كيف ستسير معه تدابير الأمور لاحقًا، مفضيًا إلى خلط الأوراق والمواقف بين توجه شعبي ثوري عارم من صميم مطالبه تحقيق أهداف الثورة، وبين توجه تكنوقراطي نخبوي قد تؤدي مخططاته وتدابيره إلى نتائج كارثية على المدى القصير، ناهيك عن أن هذا التوجه الإسعافي قد يفضي لا محالة إلى اتساع الفجوة بين عامة الناس والطبقة السياسية والتكنوقراطية الحاكمة، ممثلة في قوى الحرية والتغيير وحكومة الفترة الانتقالية.

وكان التحالف قد أشار مرارًا في الفترات السابقة إلى أنه ليس مع خيار رفع الدعم لمعالجة الخلل الكبير في المالية العامة ومع توظيف الإيرادات المخصصة في الموازنة للدعم بكيفية تحول دون حدوث عجزٍ حاد في الموازنة العامة، لأن هذا التوجه ستتضرر منه الفئات الفقيرة والمُعدمة التي أصبحت مُستباحة ولقمة سائغة في فك وحش الأسعار المفترس طوال السنوات الماضية، وهي فئات واسعة وكبيرة تغطي كل فقراء ومعدمي الأرياف وأطرافها ونظرائهم في ضهاري المدن وأحيائها الشعبية. وذلك على الرغم من أن المجلس المركزي لتحالف قوى الحرية والتغيير كان قد اقترح مؤخرًا على وزير المالية الشروع في رفع الدعم عن المحروقات بالتدريج بعد ستة أشهر، مع رفضهم لتحرير أسعار المحروقات وفق الطريقة التي اعتمدتها الموازنة المقترحة. فوفق ما هو منصوص عليه في مشروع الموازنة التي ستجاز خلال الأيام القادمة، فإنه سيتم تحرير أسعار البنزين في أذار/مارس ونيسان/أبريل من العام القادم، ومن ثم أسعار الجازولين في آب/أغسطس، مع عدم المساس بغاز الطبخ.

اقرأ/ي أيضًا: عام على الثورة.. الشباب من الاحتجاج إلى السياسة

شبكات السماسرة والمضاربين

طوال العقود الثلاثة الماضية ظلت الأسواق المحلية تخضع للهيمنة والسيطرة الكاملة من قبل شبكات السماسرة والوسطاء والمضاربين بالعملة والمحاصيل والثروة الحيوانية. ولقد أحكمت هذه الشبكات سيطرتها المطلقة على الأسواق الحيوية في مناطق الإنتاج الزراعي والحيواني. وعلى الرغم من وجود هذه الشبكات قبل نظام الإنقاذ البائد، إلا أنها استشرت ببشاعة في حقبتها بفعل سياسات التحرير الاقتصادي التي دفعت الدولة إلى التخليِّ عن أدوارها التنظيمية والرقابية الصارمة التي تخلق شروط مواتية للتنافس العادل كما تحمي فئات صغار المزارعين والمنتجيين والحرفيين والفئات الأخرى التي تقع في دائرة الفقر المدقع.

ويشير مصطفى شقوري، (40) عامًا، مزارع من قرية الخور الأبيض بشمال كردفان، إلى أن السمسار الوسيط الذي يسمى هناك بـ(السبابي): "يبيع قنطار السمسم الذي يشتريه بسعر أقل من المزارع المُنتج بفارق أكبر للتاجر الكبير. كلها شبكات يضيع بسببها الزول المواطن البسيط". ومن جانبه يشير الصادق محمد سنين، (73) عامًا، مزارع من منقطة ألبان جديد بشمال كردفان، إلى التأثير السالب لارتفاع الأسعار على تربية المواشي وسعايتَّها، قائلًا إن "أول حاجة ملوة الذرة بتكلف (70) جنيه، وفي الشهر داير ليك (30) ملوة. وشوال الأمباز الصغير يكلف (1000) جنيه". وتتحكم شبكات التجار ووكلاء الصادر في السودان في فرض نوع المحصول على المزراعين في قطاع الزراعة المطرية، نظرًا لقيمته التنافسية العالية. وهو ما يجعل المزارعين مرتهنيين بشكل دائم لقوانين العرض والطلب دون تحقيق الاكتفاء الذاتي من زراعة المنتج المحلي.

اقرأ/ي أيضًا: في عيدها الأول.. لماذا تنتصر ثورة السودان؟

تكاليف المعيشة اليومية في منطقة ألبان جديد بشمال كردفان (متوسط الصرف اليومي لأسرة مكونة من خمس أفراد)
نوع السلعة السعر
كيلو السكر 40 جنيه (يوميًا)
أوقية الشاي 10 جنيه (يوميًا)
أوقية البن 25 جنيه (يوميًا)
نصف رطل زيت 30 جنيه (يوميًا)
رغيف الخبز 40-50 جنيه (يوميًا)
ملوة ذرة بيضاء 80 جنيه (كل ثلاثة أيام)
لحم بقري 70 جنيه (كل ثلاثة أيام)
حليب، 2 رطل 40 جنيه (يوميًا)
بصل، نصف ملوة 60 جنيه (2-3 أيام)
أبهرة طعام 50 جنيه (يوميًا)
حطب وقود 25 جنيه (كل ثلاث أيام)
فحم وقود 20 جنيه (يوميًا)
لوبيا بيضاء 40 جنيه (يوميًا)
شعيرية 60 جنيه (ليست يوميًا)
المجموع 415 جنيه

نلاحظ من خلال هذا الجدول أن متوسط المعيشة اليومية في الأرياف يقع في مستوى الحد الأدنى الحالي للأجور والذي يبلغ 450ج، علمًا بأن التوجه الجديد للحكومة يعتزم رفعه إلى 1000ج. ومن المعلوم أن كل فقراء الريف، كصغار المزارعين والمنتجين والحرفيين والفريشين والباعة الجوالين، يقعون في الطيف الواسع للعمالة غير المهيكلة أو غير النظامية، مقارنةً بالفئات التي تعمل بأجر ثابت في القطاع العمومي وهي تقدر بحوالي 20% فقط.

إذا كان الإجراء الراجح والمرتقب هو رفع الحد الأدنى للأجور ورفع الدعم، فإن أي زيادة في الأجر بجانب الدعم سوف يلتهمها وحش الأسعار بنهم وارتياح بالغين

غياب الأدوار الرقابية للدولة

وإذا كان الإجراء الراجح والمرتقب هو رفع الحد الأدنى للأجور ورفع الدعم، فإن أي زيادة في الأجر والدعومات سوف يلتهمها وحش الأسعار بنهم وارتياح بالغين. ويشير معتز محمد، (25) سنة، خريج جامعي، صاحب محل تجاري صغير بجبرة جنوب الخرطوم العاصمة، إلى أن أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية الآن في ارتفاع مستمر مقارنة بقيمتها قبل ثلاثة أشهر، مضيفًا أن "المشكلة الأساسية في غياب رقابة الدولة على أسعار المنتجات والسلع، مع انعدام وجود مراكز توزيع رئيسية للشركات المنتجة وشركات التوزيع، ما سمح بتدخل التجار الوسطاء بين البائع المباشر والمستهلك المباشر. تكمن المشكلة في غياب الرقابة الدقيقة والصارمة على أسعار السلع وغياب مراكز وعمليات التوزيع الرئيسية".

الزيادة في أسعار السلع والمنتجات المعيشية الضرورية
السلعة قبل 3 أشهر (جنيه) السعر الحالي (جنيه)
زيت الطعام (رطل) 50  65-70 
جوال السكر 50 كيلو (مستورد) 1450-1400 1920
الحليب/رطل 15 25
زبادي (كاسة) 35 50
البيض/طبق 100-120 300
جبنة بيضاء/كيلو 200 280
العدس/كيلو 60 85
الأرز 48 60

ويقول فيصل الأمين محمد، (61) عامًا، مهندس سابق بمشروع الجزيرة، "أولًا لا بد من تدخل الدولة لضبط الأسواق، دون تركها عائرة وسائبة وكل تاجر يُسِّعِّر على هواه. ثانيًا، توجد سلع ضرورية لا بد من إعفائها من الجمارك وتوزيعها بإشراف تام ومباشر من قبل الدولة من خلال تعاونيات استهلاكية. كالعدس والدقيق والرز والسكر والشاي والصلصلة وما إلى ذلك". ويضيف "لا توجد دراسة ومعرفة وافية عن أسباب ارتفاع أسعار سلعة السكر، على الرغم من إنتاجها محليًا، كما أن تكلفتها عالميًا تصل إلى (200) دولار قيمة سعر الطن".

 

اقرأ/ي أيضًا:

هوس الامتلاك.. قراءة في سيكولوجيا "الزحف الأخضر"

تكامل أدوار مواقع التواصل الاجتماعي ولجان المقاومة